في دراسة قيمة للأستاذ أكرم ألفي صدرت في مارس 2015 عن مركز دراسات أحوال مصر تتبع فيها نسب التصويت من إجمالي عدد من يحق لهم المشاركة السياسية؛ وجد الكاتب ثبات معدل التصويت حول 20% باستثناء الانتخابات التي شابها تزوير فاضح في 87و 90 و95.
ولم يحدث تطور كبير إلا في انتخابات 2011 التي جاوزت نسبة التصويت 63% بالمعيار ذاته؛ أي ثلاثة أضعاف المعدل الثابت قبل يناير 2011، والانتخابات البرلمانية في مصر لا تتسم فقط بتنافس القوى السياسية، ولكن جزءا معتبرا منها يعتمد على القبلية والمال السياسي واستغلال النفوذ تستحوذ تلك العناصر على كتلة ثابتة حتى في غياب تام للقوى السياسية.
بالعودة إلى الـ20% الرقم الثابت لنسبة التصويت قبل يناير يمكن تقسيمها إلى كتلة سياسية وكتلة “ثانية” إن صح التعبير؛ ومع يناير 2011 تغيرت المعادلة تماما وانضمت كتل شعبية غير منتظمة سياسيا داخل العملية الانتخابية ما رفع نسب التصويت بشكل غير مسبوق؛ وبالتالي بعد انقلاب 2013 عادت تلك الكتل إلى ما كانت عليه قبل ذلك وانحصرت المشاركة الممكنة في الكتلة المسيسة والكتلة الثانية؛ والمعنى المباشر لذلك أن تعود نسب التصويت القصوى إلى 20% مرة أخرى.
ومع غياب التيار السياسي الأقوى وهو التيار الإسلامي المنظم تهبط النسبة إلى نسبة الكتلة “الثانية” مع إضافة كتلة التيارات السياسية الأخرى وهي محدودة إذا اعتمدنا على نسب التصويت لهم قبل 2011.
إذا فلا جديد عن شكل الانتخابات ما قبل 2011؛ فهي مخصصة للكتلة الثانية مع القليل من المسيسين؛ فلا يمكن أن تزيد نسبة التصويت عن 10% في أكثر الأحلام هدوءا.
ومع ملاحظة التأجيل المستمر للعملية الانتخابية بعد انقلاب يوليو الثاني نحتاج للتوقف لمحاولة الإجابة على سؤال، لماذا لم تستغل قوى الانقلاب الزخم الذي رافق انقلاب 2013 أو ما بعد انتخابات رئاسة الانقلاب لتحقيق شكل مقبول للانتخابات؟
الواضح أن كتلة الانقلاب تدرك تلك الأرقام جيدا وتدميرها المتعمد لكافة القوى السياسية التي رافقت الانقلاب يدل على رغبتها في قصر العملية الانتخابية على تلك الكتلة “الثانية” التي تستطيع التعامل معها وتمتلك كل مفاتيحها وتستطيع صناعة “مجلس شعب” تابع لها تبعية كاملة غير منقوصة.
وهذا في رأيي هو سبب التأجيل المستمر للانتخابات التشريعية حتى تصل إلى درجة الثقة في حدوث تلك المقدمات؛ ولا أعتقد بأنها تفاجأت أو انزعجت من حجم المشاركة المحدودة فربما -وهذا هو الأرجح عندي- أنها خططت لذلك وكانت تدركه وتريده تماما لتؤكد رسالة هامة دأبت على ترسيخها طوال عامين وهي ضرورة خروج كافة القوى المعادية للحكم العسكري -حتى وإن أيدته مرحليا للتخلص من التيار الإسلامي- من معادلة السلطة نهائيا.
والعجيب أن البعض ممن يشاهدون قنوات الإعلام المصري يأملون في حدوث تغيير بالنظام أو يصدرون فكرة الأجنحة المتصارعة عندما شاهدوا انفعالات إعلامي النظام معلنين غضبهم من نسب التصويت وتناسوا ما كانوا يقولونه من أيام معدودة بأن الجميع يتم تلقينه بما يجب أن يقال وتناسوا أن الانقلاب يتحول بقوة إلى نظام عسكري يريد ترسيخ سيطرته المطلقة على كل مؤسسات الدولة، وتناسوا أيضا أن النظام العسكري هو من أجل الانتخابات مرة بعد مرة ليصل إلى هذا الهدف.
إذا لم تحدث مقاطعة للانتخابات من عموم الشعب الذي شارك بكثافة في انتخابات 2011 بل حدثت عودة إلى الوضع الطبيعي في النظام المستمر منذ الخمسينيات؛ هذا الشعب هو من ملأ شوارع مصر بعد الانقلاب وهو من فقد الكثير من الأمل في الإصلاح وهو من يشعر الآن بمحاولات البعض الدؤوب للعودة إلى نموذج ما قبل 2010؛ ألا وهو دولة ومعارضة منظمة بلا شعب وتعود النسبة إلى 20% مرة أخرى.
لهذا فالمقاطعة حدثت فقط من القوى الإسلامية المنظمة التي جعلت نسبة الـ20% تتهاوى إلى ما نراه رأي العين.
والسؤال الثاني لماذا لم يلجأ النظام العسكري للتزوير إلى رفع نسب المشاركة كما فعل في استفتاء دستور 2014 أو انتخابات الرئاسة؟
أرى أن الإجابة هي امتداد لإجابة السؤال الأول؛ في انتخابات دستور 2014 كانت بالأساس استفتاء على انقلاب يوليو 2014، فكان لابد من نسب مشاركة عالية لتثبيت شرعية لا زالت سائلة؛ وفي انتخابات الرئاسة في 2014 كان التزوير واجبا لصناعة الزعيم؛ أما الآن فلا حاجة لشرعية من أحد بل الحاجة لاستكمال منظومة الدولة العسكرية الجديدة؛ بل على العكس، فالزخم المقصود بضعف التصويت يرسخ من فكرة الزعيم الأوحد ويمهد لتبعية كاملة واستسلام كامل من المجلس.
لم يبق إلا سؤال يحمل قدرا كبيرا من الدهشة، لماذا توقع الكثير ممن يعارضون الانقلاب نسب تصويت عالية أو بمعنى أدق لماذا كل هذا الزخم حول ضعف التصويت.
لو كان زخما إعلاميا مع إدراك حقيقة الأمر فربما نختلف حول جدوى ذلك، ولكن القضية هو إحساس البعض بانتصار في معركة وهي ليست كذلك، فالكتلة التي لم ولن تشارك في الانتخابات لم تتغير والكتلة التي شاركت بعد يناير 2011 كانت معك في الشوارع بعد الانقلاب باستثناء بعض الظواهر الإعلامية وهي مؤمنة فعلا بالتغيير، ولا يمكن أن تشارك في تلك الفضيحة.
والكتلة الفاسدة –الثانية- كما هي قبل وبعد يناير؛ وما قلل من حجم التصويت عن نسب ما قبل 2011 هو انسحاب الكتل المنظمة بكل أشكالها وعلى رأسها التيار الإسلامي. إذا فالمعادلة كما هي منذ انقلاب يوليو الثاني حتى الآن. إذا فماذا تغير حتى تشعر بانتصار؟
إن الانقلاب العسكري مشروع كبير أكبر من حدود مصر، جزء من مشروع إعادة تخطيط المنطقة بعد مئة عام من التخطيط الأول أثناء الحرب “العالمية” الأولى، ولا ينبغي لتلك الأدوات التي لا ترتقي للمعارك أن تشغلنا عن حقيقة مشروع الانقلاب وأهدافه وتشعرنا بالانتصار في معارك زائفة تحيد بنا عن الرؤية الكبرى لما يحدث وتجعلنا نري آمالا كاذبة لطالما دفعت بنا إلى التيه الذي ندور فيه من مئتي عام.
فأصحاب المشروع لن يتنازلوا عن رجلهم من أجل أي شيء، خاصة إذا كان في المسار الذي يرسخ خروج الشعب من معادلة السلطة لصالح الكتلة الثانية الفاسدة التي تعزف معهم على أنغام واحدة.