الأصل في العقاب أن يكون نابعا من قيم وثقافة المجتمع، ونتيجة لاختلاف المجتمعات نجد أن بعض الأفعال في بيئات اجتماعية تكون محرمة عكس بيئات أو مجتمعات أخرى، إذا فالعقاب هو وسيلة المجتمع للحفاظ على قيمه وبالتالي إجراءاته التي يضبط بها نمط حياته؛ والاختلاف الكبير الذي يحدث هو ناتج عن عدم قدرة العقل البشري على التجرد الكامل وبالتالي يتحرك رغما عنه إلى ما يراه متوافقا مع مصلحته وفي حالات الاستبداد نجده لا لصالح قيم المجتمع ولا حتى مع مصلحة المجتمع من وجهة نظر برجماتية.
والهدف من العقاب هو إيقاع ألم ما بالمعاقب؛ قد يكون ألما بدنيا كالإعدام أو معنويا كسلب الحرية أو الأموال؛ ففي النهاية لا بد أن يقع ضرر ما على المعاقب. وبالتأكيد عقلا لا بد أن يكون هذا الضرر متناسبا مع الجريمة.
ولأسباب معقدة احتكرت الدولة حق العقاب ؛ فأصبحت هي ممثل المجتمع في قيمه وأفكاره عن الجريمة وبالتالي العقاب؛ حسنا؛ الآن يمكن أن نتعامل مع الدولة كممثل للقيم والأفكار ونتجاوز ولو مرحليا عن العلاقة العابرة مرة كل أربعة أو ستة أعوام التي يقابل فيها المجتمع الدولة في انتخابات كرنفالية موسمية وخاصة في دول الموز أو بمعنى أدق دول الروح المعنوية؛ فجمهوريات الموز أصبحت أكثر رقيا من أشباه الدول التي نعيش فيها.
وأصبحت الجريمة؛ أية جريمة ؛ هي تعريف الدولة للفعل الذي يستوجب العقاب؛ وبالتأكيد مع وجود دولا بائسة كمصر سيكون العقاب قاسيا لكل من يحاول الخروج من نطاق الدولة أو بمعني أدق الخروج من الشكل الذي تريده الدولة “لمواطنيها”؛ ففي مصر نظرا لانفصال الدولة الكامل عن المجتمع أصبح ما يضر المجتمع بدرجة ما في صالح الدولة وما يضر الدولة فهو في صالح المجتمع.
طبقا لهذه المقدمة ينتج تعارضا غير قابل للاحتواء بين الدولة والمجتمع وتلجأ الدولة إلى تعبئة أكبر قدر ممكن من القوة لمواجهة المجتمع ومن أهم تلك الأدوات هي احتكار العقاب، وإذا لم يكن “بالقانون” كان بغيره. فعندما شعرت الدولة بعدم كفاية القانون كأهم أداة للعقاب لتثبيت طغيانها اللا متناهي ؛ تحولت إلى القتل المباشر كشكل من أشكال العقاب، ولم تتورع الدولة عن القتل المباشر بل وإعلان ذلك على أنه تصفية في وسائل إعلامها.
والهدف من كل تلك الوسائل هو الردع سواء عن الفعل المادي الذي تجرمه الدولة أو عن الأفكار التي تعارض مصالحها. و الردع في حالة الجرائم الجنائية يحقق ردعا بنسبة ما؛ فالمؤكد أنه ليس كل من عوقب على جريمة جنائية استطاعت العقوبة منعه عن العودة إلى “الجريمة” فهناك جزء لم تردعه العقوبة وجزء آخر استطاعت منعه وجزء ثالث وجد من الأفضل التعاون مع الدولة وهي منظومة الجريمة المنظمة المتعاونة مع الدولة في قهر المجتمع؛ وهي جزء من المجتمع ولكنها للأسف معادية له، وبالتأكيد نعني الجريمة من وجهة نظر الدولة والتي ليس بالضرورة أن يراها المجتمع جريمة، ولكنها الدولة وما تراه.
عند قياس تأثير العقوبة في حالة ” الجريمة الفكرية” التي تقررها الدولة بطريقة مشابهة لتأثير العقوبة في الجرائم السياسية؛ مع الاتفاق الكامل على اختلاف طبيعة أصحاب الأفكار؛ نجد أننا نحصل بقدر ما على نتائج متشابهة، فهناك جزء سيبقي على أفكاره وجزء آخر سيتوقف عن ممارسة “جريمة التفكير” وجزء ثالث سيتحول بوعي أو بدون لصالح استمرار بقاء الدولة على حساب المجتمع والذي من المفترض أن يكون جزءا منه.
إن هذه النتيجة المباشرة التي تحتاج إلى الكثير من الدراسة الأكاديمية المتعمقة للوصول إلى نتائج حقيقية علمية تشير إلي حجم الكارثة التي حدثت في بناء المجتمع ليس فقط الكتلة البائسة الفقيرة ولكن أيضا في كتلة النخب والقيادات؛ وأدى احتكار العقاب في يد مجموعة مجرمة إلى استخدام تلك الوسيلة في تثبيت سلطتها بل وتدمير القوي المناهضة لها.
يبقى سؤال أخير؛ هل احترام المجتمع لاحتكار الدولة المستبدة للعقاب وتفسير الجريمة وتحديدها يعتبر فكرة أخلاقية وقانونية أم أن إعادة انتزاع حق المجتمع في العقاب من الدولة المستبدة هو حق أخلاقي وقانوني؟