شاهدنا في الشهر السابق عدة صور لانتصارات في منطقتنا التي غابت عنها الانتصارات منذ عاصرنا حكم الخونة. ففي تركيا، منذ 15 تموز/ يوليو ونحن نشاهد انتصارات متتالية، أعظمها على الإطلاق المواجهة الشعبية المبهرة في ليلة الانقلاب، وانطلقت بعدها انتصارات متتالية بتنظيف المؤسسات من الخونة. إن ما حدث في تركيا يعد ثورة تأجلت منذ ما يقرب من ستين عاما، عندما أُعدِم رئيس الوزراء عدنان مندريس. منذ تلك اللحظة التي أعلن فيها الجيش التركي أنه صاحب الحق الوحيد في الحكم وليس لأحد حق منازعته فيه، وعلى مدى تاريخ طويل وانقلابات عدة، استطاعت القوى الشعبية الوصول للسلطة. ولظروف معقدة ومتراكمة، أجّل الجيش انقلابه، حتى حانت اللحظة التي انتظرها الجميع في الخامس عشر من تموز.
هذه اللحظة الفارقة التي كانت مفترق طرق بين طريق الثورة المؤجلة من جهة، وطريق الحالة المصرية من جهة أخرى؛ التي أصبحت أحدث نماذج الانقلابات الدموية التي تعلن بوقاحة حق الجيوش في السيطرة على الشعوب. نجح الشعب والإعداد الجيد من السلطة في مقاومة الانقلاب الذي انتظروه طويلا، والأشرس في التاريخ التركي، وساروا في طريق الثورة المؤجلة التي ستجعل من تركيا نموذجا راقيا ومختلفا في تداول السلطة وامتلاك الشعب لها بشكل حقيقي نسبيا.
النموذج الآخر هو حلب الشهباء، فمنذ شهور قليلة كانت حلب تحترق تحت وطأة القاذفات القادمة من كل حدب وصوب، تحت سمع وبصر العالم كله؛ الذي لم يهتز لها.. حلب التي تحررت الآن – حتى لو كان تحررا مرحليا – رسمت صورة أخرى للانتصار. فالمقاومة قامت بعمل مبهر أمام جيوش “حديثة”، إلا أن الإرادة والبطولة تحت رايات الحق والعدالة؛ استطاعت أن تحطم الكثير من أسوار الظلم والاستبداد في حلب، رسمت حلب نموذجا آخر للانتصار، وأصبحت أيقونة أخرى، ونموذجا لكيفية تحرير الأرض والوطن.
الانتصار الأكبر الذي حققته حلب واسطنبول؛ هو إحياء الأمل في قدرة الشعوب، كل الشعوب، على المقاومة، كل بما يستطيع وكل حسب قدراته وإمكاناته. فما يصلح في اسطنبول قد لا يصلح للقاهرة، وما يصلح للقدس ربما لا يكون مناسبا لحلب، وهذا هو أصل الأزمة التي اشتعلت بعد سقوط الانقلاب في تركيا، وخاصة في الحالة المصرية.
فهناك من استدعى انقلابات تركيا الأربعة ليشير إلى أن مصر بقي لها انقلابان حتى تتحرر من الحكم العسكري، كما هو الحال في تركيا، متجاوزا عن اختلافات هيكلية بين مصر وتركيا. فتركيا لا يحدث بها تزوير للانتخابات على الإطلاق. فالتزوير هو جريمة مخلة بالشرف، وعسكر مصر لا شرف لهم، ولهذا لا يجدون غضاضة في التزوير الكامل، بعكس تركيا التي لا يمكن أن يحدث بها تزوير بالانتخابات.
وتركيا دولة لم تكن تحت الاحتلال. فالمؤسسات التركية حتى لو كانت تحمل توجها فكريا مختلفا، إلا أنها لم تنشأ تحت هيمنة الاحتلال، بعكس المؤسسات المصرية، وهذا ما يزيد المشكلة المصرية تعقيدا. فالحل التركي بانتظار انقلابين آخرين ربما لا يكون مفيدا، بل الأرجح أن العدد سيزيد عن الأربعة، وساعتها سنبدأ في البحث عن وسيلة أخرى للتحرر، فالأفضل أن نبحث عنها من الآن.
إن الحالة العامة بالمنطقة هي حالة مقاومة بامتياز، وهناك حالة عامة من التمرد تجتاح قطاعات واسعة، خاصة بين الشباب للرفض الكامل للواقع المؤلم الذي نعيش فيه. ربما حالة التمرد والرفض الشامل يراها البعض مدمرة وغير واقعية، وخسائرها أسوأ، ولكن السؤال هو: أسوأ من ماذا؟ لا أعتقد أن هناك أسوأ مما نحن فيه.
إن هذه الحالة التي غابت عنا – بهذا الزخم والانتشار – ربما 200 عام هي أفضل ما أنتجه الربيع العربي حتى الآن، وهي تشير إلى بداية الخروج من التيه الكبير وهو أول طريق الانتصار.
انتصرت حلب وانتصرت اسطنبول، وستنتصر القاهرة وبغداد عندما يعرف رجالهما وشبابهما أي الطرق عليهم أن يسيروا فيها. فكل منا له طريقه الخاص للانتصار، فقط علينا امتلاك إرادة النصر. وقد علمتنا اسطنبول وحلب كيف تكون الإرادة وكيف تنتصر.