بعد انتهاء معارك العدوان الثلاثي على مصر والتي انتصرت فيها المقاومة الشعبية على المعتدين بعد انسحاب مغاوير ما يسمي بالجيش المصري، خرج “المغاوير” بأغنية انتصرنا انتصرنا وأصبح كبير المغاوير بطل الأمة؛ قد يتحفظ البعض على تعبير الانتصار ولكن لا أحد يمكنه التشكيك في المقاومة الباسلة لمدن القناة وبالأخص بورسعيد، وما يهمنا في هذا السياق هو رد فعل السلطة في مصر التي انسحبت بجيشها وتركت الشعب يواجه مصيره ثم تغنت بالانتصار.
وقبل التطرق لرد فعل السلطة علينا أولا تثبيت مفهوم الهزيمة؛ فالكلمة ليست فقط ذات معنى لغوي ولكنها مع ما مر بالبشر من مصاعب جمة وما يملأنا جميعا من ضعف بشري حملت من المعاني الكثير؛ بل وحملت من المعاني المتناقض؛ وأصبحت كلمة طيعة لينة في يد الكثير يحول بها النصر إلى هزيمة أو الهزيمة إلى نصر أو الاستسلام إلى هزيمة وشتان الفارق بين كل هؤلاء.
فنظام يوليو أعلن انتصاره بعد 56، فقد قاوم الشعب وانتصر ومن حق النظام السياسي أن يعلن الانتصار للأمة حينما يقاوم شعبه حتى وإن كان يسحقه؛ ولكن ربما ليس من حقه أن يتغنى بانتصار الزعيم، كرر نظام يوليو أغنية الانتصار نفسها ولكن بشكل أكثر سخافة؛ فبعد كارثة 1967 رقص أحد أعضاء مجلس الشعب في البرلمان “علاقة الرقص قوية مستديمة مع عسكر مصر” احتفالا بعدم تنحي الزعيم المهزوم، كما أعلن منظري النظام أن بقاء الزعيم انتصارا، هكذا يرى البعض الهزيمة الساحقة نصرا وهكذا يمكن تحويل أذهان المخاطبين من المشهد الحقيقي إلى مشهد آخر يحمل قدرا من الحقيقة ولكن جلّه كاذب. فتنسى الهزيمة وتعيش في عالم مواز وكأنك منتصر ترقص طربا.
هذه الصورة الكاريكاتورية عادت بشكل كارثي بعد انقلاب 3 يوليو؛ وأصبحت كل كارثة تتم هو شيء جيد وأصبحت كل الكوارث والفضائح انتصارات؛ وأصبح الراقص في البرلمان بعد هزيمة 67 هو المرجعية الفكرية لمؤيدي الانقلاب؛ فقط أعلن للناس أنه انتصار ويكفي تماما أن يقتنع هؤلاء.
علمنا هؤلاء كيف نحول الكارثة أو الهزيمة لنصر مبين؛ بل وزادونا من الشعر بيتا بإظهار كافة مظاهر السعادة، وهذا طبيعي في حالات انعدام الوعي المقترن بالهزيمة النفسية؛ فانعدام الوعي وحده كاف لتحويل الهزيمة لنصر أما السعادة بذلك فهو من تأثير الهزيمة النفسية الكاملة.
على الجانب الآخر من “معارضي الانقلاب” يبدو أن الأمر مختلف؛ فهناك من يريد الاعتراف بالهزيمة أمام العسكر؛ وعلينا أن نفرق بين إدراك الهزيمة وبين الاعتراف بها وبين الاستسلام لها؛ فهي ثلاثة أمور مختلفة.
فالهزيمة تحتاج إلى تحديد لطبيعة المعركة وهل هي من المعارك التي تقبل الهزيمة بها أم أنها معركة وجود لا يمكنك أن تهزم فإما أن تنتصر أو تموت؛ فإذا كنا نرى أن المعركة كذلك فلا مجال للهزيمة في المعركة؛ ربما كانت هزيمة في جولة ولكنها ليست نهاية المعركة وعليك الإعداد للجولة التالية ثم التالية حتي تنتصر؛ هذا إن كنت تراها معركة وجود.
أما إن كانت غير ذلك فلا بأس من إدراك الهزيمة، فإدراك الهزيمة يعتبر شيئا إيجابيا يبشر بمعرفة أسبابها ومن ثم تجاوزها في المعارك التالية، والتوقف عند تلك النقطة عمل جيد، والتحرك إلى المرحلة التالية بالاعتراف بالهزيمة يشير إلى الرغبة في تجاوز المعركة ويشير إلى أن الطرف “المنهزم” قد أحس بثقل المعركة عليه وبالتالي يجب أن يتوقف الصراع عند تلك النقطة، ربما يكون هذا حقا لأي منا عندما تكون المعركة والصراع صراعا فرديا أما في حالات الصراعات الكبرى وصراعات القوة والسلطة والوجود والتي تتجاوز الأفراد أيا كانوا فالاعتراف بالهزيمة يتجاوز تأثيره من يعترف بها إلى مساحات أوسع، لهذا أرى أنه في الصراعات الكبرى على من يعترف بالهزيمة أن يعلن أن اعترافه هذا يخصه وحده وأنه لا يلزم أحدا به وأنه اكتفى من المعركة بذلك. فليس من حق أحد فرض رؤيته على الآخرين حتى ولو كان من القيادات والنخب المجتمعية.
والبعض ممن يريدون الاعتراف بالهزيمة من العسكر يرى وجوب أن يلحق الجميع بهم، قد نكون هزمنا في هذه الجولة لكن طبيعة المعركة تحتم علينا كما أرى عدم الاعتراف بالهزيمة لأن ثمنها سيكون تدميرا لكثير من الأمل في مستقبل أفضل للأجيال القادمة كما أن الاعتراف بالهزيمة دائما كما علمنا التاريخ يتبع بتنازلات كبيرة وكبيرة جدا.
هناك قطاع ثالث لا يريد فقط الاعتراف ولكنه يكتب صك الاستسلام ويقدم كل التنازلات الممكنة حتى قبل الجلوس مع العدو، فهو يقدم كل شيء مقدما مقرونا بقدر كبير من التفسيرات “الحكيمة” فلا داعي لأي شيء سوى الوقوف منتظرا لقبول عدوك تنازلاتك المدفوعة بغير ثمن.
إن إدراك الهزيمة حكمة تقودك للنصر أما الاعتراف بالهزيمة فيغلق طريق النصر والاستسلام لها هو موت مقنع.
لا نريد أن نكون مثل نظام العسكر الذي يحول الهزيمة لنصر بالرقص فوق جثث أبناء وطنه، ولا نريد أن نكون كالمصابين بالفصام نعيش في عالم مواز من نسج خيالنا، ولكن أيضا لا نريد أن نكون عقبة في طريق النصر لهذه الأمة. لهذا؛ فإن ألحان الهزيمة المتداولة الآن بكل هذا الوضوح في العلن ليست بريئة على أية حال.