يبدو أن الحديث لن ينقطع عن العدالة والقانون، فعلى فترات متقاربة تظهر أحداث تجعل من الصعب تجاوز تكرار التأكيد على الفارق بين الاثنين، ليس كذلك فقط؛ بل إننا أحيانا نجد تعارضا كبيرا بين القانون والعدالة يصل إلى أن يتحول القانون إلى أداة لوأد العدالة.
وحقيقة الأمر، أن القانون كما يقول فيشينسكي: “القانون هو مجموعة القواعد التي تعبر عن إرادة الطبقة الحاكمة، ويتم تطبيق هذه القواعد بقوة الدولة بغرض تعزيز وتقوية وتطوير العلاقات والظروف الاجتماعية لتتواءم مع إرادة ومصلحة الطبقات الحاكمة”؛ فالقانون طبقا لهذا التعريف في كل المجتمعات المادية يعبر فقط عن إرادة الأقوى، والأقوى في النظم التشريعية والتنفيذية في مجتمعاتنا هو الحاكم ومن معه.
هناك اعتراض كبير على الجملة السابقة من البعض، إذ يؤكدون أن المجتمعات الديمقراطية استطاعت حل هذه المسألة وأصبحت السلطة ملك المجتمع، ربما يكون ذلك صحيحا ولكن -إن صح- فهو على حساب كم كبير من شعوب العالم خارج الدول “الديمقراطية”؛ وفي داخل هذه الدول “الديمقراطية” بدأت أصوات عالية تدعو إلى إعادة قراءة المشهد داخلها، ونحن لا نزال ننادي بما يريدون تجاوزه.
ويبدو أن الكثير من الرغبات في مجتمع أكثر عدالة قد حمَّلها الآمِلون على مصطلح الديمقراطية، فعلى المستوى الشخصي؛ لا أستطيع إدراك كيف يمكن للنظم الديمقراطية أن تجعل المجتمع مشاركا بالسلطة إلا خلال تلك الأيام الكرنفالية التي يذهب فيها الناس للتصويت ثم تعود الأمور كما كانت.
وأرى أن هناك فارقا بين إدارة السلطة والسلطة ذاتها؛ وكل الدلائل الحالية على الأقل تشير إلى أن الأنظمة لم تعد فقط تدير سلطة المجتمع، ولكنها احتكرت السلطة ذاتها وأصبح المجتمع تابعا ليس فقط في المجتمعات الاستبدادية، ولكن في كل المجتمعات.
وأصبح القانون هو الملجأ الأخير لحماية ما تبقى من حقوق الشعوب والمجتمعات أمام سطوة احتكار السلطة، ولأن القانون كما ذكرنا هو تطبيق لإرادة الطبقة الحاكمة في المجتمع المادي؛ ولأن المجتمعات لم تعد محدودة بالحدود القومية، ولم تعد هيمنة الأنظمة مرتبطة بمساحاتها؛ بل تجاوزت بعض النظم وأصبح الصراع متجاوزا لتلك لحدود؛ ولأننا لا نمتلك أو بمعنى أدق لا نستطيع ممارسة نماذج أخرى للسلطة؛ أصبحنا أسرى قاعدة القوة، فالقانون أصبح يعبر عن إرادة القوة الحاكمة المتجاوزة للحدود.
وعلى مدى تاريخ طويل؛ أصبح هناك ارتباط ذهني شبة كامل بين العدالة والقانون، فأصبح من الطبيعي أن تتحدث باسم القانون وأنت تؤمن تماما أنه العدالة؛ خاصة عند القانونيين بكل تنويعاتهم؛ وأصبحت الإجراءات جزءا من العدالة، وأصبح حكم القانون هو عين العدالة.
هذا التطور الكارثي تحول من القانونيين إلى غيرهم من السياسيين والنخب من كل التيارات، وأصبح الحديث عن العدالة المجردة ضربا من التمرد.
جاءت حكاية تيران وصنافير ثم خليج نعمة لتحاول إقناع عاشقي القوانين أن هناك خطأ ما، وأن احترام المنتج -أي منتج- لا بد أن يتوافق مع مقدماته، فالقانون منتج “لضبط” النشاط الإنساني طبقا لقواعد أخلاقية وفكرية اتفق عليها المجتمع.
وعندما ينفصل القانون عن الأخلاق وعن المجتمع “وهذه طبيعته في الحقيقة مع طول الأمد” يبقى من غير الأخلاقي ولا المنطقي الاستمرار في احترام نصوص وقواعد تعادي الأخلاق والحق والعدل.
فهل يقبل عاشقو القوانين بكل ما يحدث في مصر وغيرها من تدمير لكافة المبادئ والمعايير والضوابط، سواء الشرعية أم حتى المنطقية بحجة احترام النص؟
لا أدري، ولكنني أتذكر تلك الملهاة التي عشناها بعد 11 فبراير، التي كنا نعيشها عندما خرج علينا عاشقو القوانين ليذكرونا بأهمية الانتقال الدستوري والقانوني للسلطة، وضرورة احترام النصوص وضرورة بناء العدالة عن طريق القوانين. كانت ملهاة حقا رأينا نهاياتها الدرامية في شوارع القاهرة وغيرها عبر المجنزرات التي أعلنت في النهاية عن القاعدة الكلية الكبرى.
ربما سيقول البعض إن الكلام يبدو معاديا لوجود قواعد مستقرة تضبط حركة ومسارات المجتمع؛ ولكن الحقيقة أنه معاد لحالة الخضوع لنصوص تبدو برداء خارجي أخلاقي، ولكنها لا تحمل منها إلا الاسم، فعندما تتباعد المسافات وتصل إلى حد التضاد بين العدالة وبين القانون فعلينا تجاوزها بلا تردد لإعادة صياغة القواعد التي تقترب بنا من العدالة.
إن تيران مصرية وصنافير مصرية وخليج نعمة مصري وستبقى هكذا مهما كُتِبت من نصوص وصدرت من أحكام، ولا أدري ما رد فعل العاشقين عندما يصدر حكم، سواء برفض الدعاوى المقامة لإلغاء التفريط في الجزيرتين أم قبولها؛ ففي الحالتين الموضوع برمته غير عادل ولا أخلاقي.
والخطورة الأكبر، هي وصول تلك القناعة إلى قطاع واسع من السياسيين والنخب، وأصبح انصياعهم للقانون بصرف النظر عن قربه أو بعده من العدالة جزءا من تكوينهم النفسي حتى لو تعارض مع القيم والأفكار وحتى الأخلاق كافة، إن هذه القاعدة الكارثية أحد أهم أسباب عدم قدرتنا على الفعل، إذ أصبح الفعل مؤطَّرا في مساحات فرضت فرضا من أصحاب القوة والتي لن تتغير قطعا ما دام القانون هو التعبير عن إرادة الأقوى ومصالحه، وهذا طريق طويل لن تكون بدايته إلا العدالة مهما كانت بعيدة عن النصوص التي ينتجها الأقوى.