الحرب هي استكمال لشكل مختلف من العمل السياسي، وهي طبقا لآراء الكثيرين فعل لا يمكن تجنبه وهو أحد أدوات الصراع الموجود منذ بدء الخليقة.
وتحديد العدو دائما ما يسبق إعلان الحرب إلا أن بعض ما نراه في وقتنا الحالي يناقض ذلك، فأحيانا تبدأ الحرب -والحرب أوسع من المعارك العسكرية بالمناسبة- ثم نبدأ في تحديد العدو، وقديما كان تحديد العدو مباشرة من الملك أو البابا أو زعماء القبائل؛ أما الآن فالدولة بمساندة “الشعب” هي من تحدد العدو، ولا أعرف أهناك فارق أم لا؛ إلا أن ما يظهر واضحا -لي على الأقل- أن النظام المعاصر لتحديد العدو أصبح لا يختلف كثيرا عن ذي قبل.
فقديما كان شخص واحد أو مجموعة قليلة تتحمل أمام المجتمع تبعة القرار أما الآن فالجميع يتحمل التبعة؛ مع أن الواقع أن الذي يختار العدو ما زال هو من يملك الأدوات ويستطيع توجيه الجماهير بأدواته الجبارة، وحتى إن لم يستطع توجيهها؛ فهو يأخذ القرار في النهاية.
ولا أجد حالة أقرب من الحرب على العراق لتوضيح الفكرة؛ فقد كان العدو هو الإرهاب وهو لا يزال مصطلحا مجهولا غامضا، ثم بدأت معركة كونية مع هذا العدو المجهول وأثناء ذلك تم تدمير دولتين ولا زلنا لم نحدد العدو بعد، ولا زالت المعارك الحربية مستمرة، فقد استطاعت قوى عسكرية باطشة بدء معركة عاتية قبل أن توصف العدو، فقد نجحوا في وضع العربة أمام الحصان وصنعوا صندوقا فارغا كتبوا على جدرانه هذا هو العدو؛ ثم وضعوا به من يشاؤون في النهاية، وما زال الصندوق يحتمل المزيد.
وحاولت تلك القوى العسكرية إقناع الناس بجدوى الحرب وسط طوفان من الأكاذيب وحالة من التهييج الكبير للجماهير التي عارضت بشدة في واحدة من أكبر الاحتجاجات المعاصرة؛ إلا أن كل ذلك لم يشفع لمنع الحرب، فقد مارست سلطة تلك الدول الطريقة القديمة في إعلان الحرب وكأنها تقول لنا أن الأمور تسير هكذا، فنحن مع الشعب إذا وافق إرادتنا أما إذا كان مخالفا لنا فنحن مرغمون على إعلان الحقيقة؛ أننا ونحن فقط أصحاب القرار.
على مدى القرون القليلة الماضية قامت عشرات وربما مئات الحروب استخدم فيها مئات الملايين من البشر وسط حالات من التهييج القومي واستخدمت أدوات كثيرة لضبط إيقاع الجماهير على نغمة الحرب، ويبدو أن ذلك ينجح في الغالب.
والآن يبدو أننا نعيش حالة حرب ناتجة عن صناعة عدو زائف أو بعبارة أدق عدو يحاولون تشكيله منذ سنوات ولا أعرف مدى نجاح ذلك، فدولة قطر ومعها تركيا وغزة أصبحت في نظر قطاع ما عدوا، ويبحثون له عن عنوان أو يحاولون وضعه في صندوق الأعداء.
في عمل للكاتب بيار كونيسا عنوانه “كيف تقتل بضمير مرتاح” حاول تحديد أنواع العدو، وما يهمنا في السياق الحالي هو العدو القريب والعدو الحميم؛ وهناك تصنيفات أخرى للعدو يصعب الحديث عنها باستفاضة في هذا المقال؛ ومنهم العدو الكوكبي والمحتل والعدو الخفي. يبدو أننا قريبون من توصيف أعداء الحرب القادمة على أنها ذلك العدو الخفي الذي يصلح أن يكون ما تقنعنا به أدوات صناعة الوعي، فهناك فزع عام تم ترويجه بلا سبب حقيقي ولكنه ذلك الفزع الحتمي قبل إعلان العدو، فقد كان مشهدا قاسيا عندما قام مواطنون من السعودية بسب قطريين بالسعودية فور إعلان القرارات الفاحشة بالمقاطعة، وكأنهم جميعا هابطون فورا من كوكب آخر وأول ما عرفوه في كوكبنا هي قرارات المقاطعة وأن أول ما رأوه هو صندوق العدو الفارغ يوضع عليه علم قطر.
ويبدو أن هدف دول المقاطعة تغيير نمط العدو من حالة العدو الخفي إلى حالة أخرى ليصبح عدوا قريبا أو حميما (نموذج الحروب الأهلية) وهو يمكن تطبيقه على الحالة الخليجية بالمناسبة؛ ففجأة مع قرار “السياسيين” أصبح جارك هو عدوك تماما كما حدث في مصر قبيل انقلاب يوليو 2013 وكأنه نموذج متكرر وكأننا لا نتعلم.
إن ما يحدث في الخليج يحتم علينا إعادة قراءة كافة المعطيات ويجعلنا نتخلى عن قناعات تبدو راسخة مُنتَجة من أدوات صناعة الوعي التي تمتلكها أنظمة أكثر سوءا من تلك التي اتخذت قرار الحرب على العراق؛ ضاربة عرض الحائط بآراء شعوبها، فنحن في بلادنا لا نمتلك حتى القدرة على ممارسة تلك الإهانة أن يعارض النظام إرادة الجماهير، بل نحن في نظام لا يرى الجماهير أصلا، وما تفعله وسائل الإعلام وصناعة الوعي هو فقط تدمير ساحق لوعي الجماهير حتى تندفع إلى حرب مدمرة بوعي زائف.
وبالتالي فإن ترتيب وتصنيف الأعداء بالمنطقة هو أمر لا ينبغي أن نتجاوزه، وكما أرى فإن أكثر الأعداء خطورة هم من يسعون لصناعة عدو زائف ويسعون باستخدام أدواتهم لترسيخ أفكار مشوهة، وهم دائما من يسعون لتغيير وجهة العداء إلى مكان آخر غير حقيقي. فعلى مدى التاريخ؛ كان أعداء الداخل الخونة أسوأ كثيرا من أعداء الجوار. فلا يمكنك أن تخوض معركة مع عدو الجوار وهناك بالداخل سلطة فاسدة تصنع لك عدوا وهميا أو تصنع لك عدوا حميما.
إن دول الحصار التي تعلن الحرب الآن تحمل صندوقا مكتوب عليه صندوق الأعداء وتحاول ملأه، ويجب على القوى المناهضة لهم بالداخل والخارج أن ترفع لافتة معلنة بأعدائهم بعد أن تقوم بترتيبهم وتصنيفهم بشكل صحيح، وأرى أن على رأس هؤلاء الأعداء أنظمة دول الحصار فهم أصل الأزمة وأصل الجرائم التي تملأ بلادنا؛ ينبغي أن يتحول هذا الصندوق الفارغ على الذين يحملونه إلى هم ثقيل عليهم بالليل والنهار، عسى أن يسقط بتلك الأنظمة في جحيم يصنعونه بأيديهم تحت وطأة أثقالهم الهائلة من دماء وثروات أمتنا.