ليست محاولة للتحقير أو الشماتة في قطاع ليس بالقليل من المجتمع المصري، فمن لا يزال مستمرا في تصديق رؤوس احتلال مصر حتى الآن يحمل بؤسا يكفيه أجيالا من بعده، ولكنها بالأساس محاولة للفهم، لماذا تتكرر عبارة “إحنا انتخبناك” كثيرا من كل من يتعرض للظلم المباشر من هذا القطاع من المصريين؟. لماذا تتردد تلك العبارة قبل العلني في الشوارع؟.
فالرجل العاري الذي يجلس في منتصف الطريق بين العربات يصرخ قبل سب النظام “إحنا انتخبناك” ، وبعض سكان الوراق الذين كانوا أحد أدوات النظام في حصار الثوار بعد الانقلاب يرددون نفس العبارة وكأنها أحد تمائم الإعلان عن المظلومية.
منذ ما يزيد عن مائتي عام كان الأصل في أي مجتمع في كل الأرض هو أن كل فرد يمكنه الدفاع عن نفسه باستخدام ما يمتلك من أدوات. وكان امتلاك السلاح أحد تلك الأدوات وهو الأصل، ولم يفكر أحد مهما كان مستبدا أو مجنونا أن ينتزع هذا الحق من الناس، حتى ولو امتلك النظام الحاكم أيا كان قوى كبيرة وساحقة يستطيع بها تنفيذ الإخضاع للسلطة؛ فإنه يدرك أيضا أنه في لحظة ما؛ يمكن أن يستخدم المجتمع ما يملكه من قوة ليتصادم مع السلطة، ولذلك حاولت كل النظم المستبدة مهما كان طبيعة نظام الحكم أن تستخدم كافة الأدوات لإخضاع الشعوب ونزع كل مصادر القوة منها.
وكانت أكبر تلك الوسائل هي استخدام الدين كمحاولة لترسيخ حتمية الواقع وأن كل شيء قدرا لا فكاك منه، وأن ما يعانيه الإنسان هو إرادة الله التي ليس لها من دافع، الحقيقة أن الموضوع ليس مباشرا وبسيطا عند الحديث عن الإرادة والقدر وغيرها من المصطلحات العميقة، إلا أن ما يمكننا قوله بكل ثقة أنه حق يراد به باطل وأنها وسيلة لترسيخ الظلم الذي لا يرضاه الله لعباده.
على أية حال استطاعت الطبقة الحاكمة في مصر مهما تغير اسمها وطبيعتها من نزع القوة من المجتمع ليس فقط قوة السلاح ولكن كل القوى الناعمة، وأصبح الدين والسلاح هما أكبر احتكارات الدولة، وأصبح المجتمع المصري مرتبط عضويا ونفسيا بالسلطة التي استطاعت صناعة صورة ذهنية عامة أنها صاحبة كل شيء وأن كل خير هو منها وكل شر من الناس، وبالتالي تكونت حالة من انعدام الثقة بالذات داخل الغالبية وأصبح من الصعب الفكاك من أسر حصار تلك السلطة ماديا ونفسيا.
حاولت قوى مجتمعية معادلة ذلك واستطاعت صناعة صورة قد تعبر عن قدر من التوازن، ولكنها وقعت في الفخ الذي نصب لمصر كلها، ألا وهو حتمية وجود النظام السياسي بشكله الحالي مهما كان بائسا، ولم يكن عندها أزمة في أن تحتكر الدولة كل أدوات القوة في مقابل السماح بمساحات محددة يمكنهم التحرك بها حتى وإن بدت ضد النظام ولكنها في النهاية تحت السيطرة.
ولا أعلم أهو ظن من تلك القوى أن بإمكانها الوصول –عبر العمل من داخل النظام – إلى مبتغاها من داخل منظومة السلطة وذلك بتفتيت احتكار السلطة وتمكين المجتمع وإعادة الاعتبار له؟؛ أم أنها رغبة في إبقاء النظام السياسي كما هو لأنها ترى أنه الأفضل وأن الأمور يجب أن تكون بهذا الشكل وأن شكل منظومة السلطة الحالية هو الأفضل والمتوافق مع رؤيتها لو استطاعت الوصول للسلطة؟
لا يهم الآن أيهما هو الصواب لصعوبة وتعقيد الإجابة، وعلى أية حال ففي الحالتين أثبت الواقع والتاريخ القريب – كما أثبت التاريخ البعيد الذي لم نعيه – استحالة حدوث ذلك وأن بقاء نظام السلطة بشكله الحالي هو معادي للجميع وغير قابل للإصلاح.
إن حالة الاحتكار للسلطة في الطبقة الحاكمة مهما كان من فيها يجعل المجتمع غير قادر على الفعل ويبقى منتظر أن تقوم السلطة بحل المشاكل، فهو فعلا لا يمتلك أية أدوات إلا انتظار ما تعطيه له السلطة، وهذا حال أكثر من 90 % من المجتمع الذي يعاني فعلا من العجز والقصور.
ولم تستطع ثورة يناير بكل منتجاتها تغيير هذا الإحساس، بل ربما زادت من ترسيخه؛ مما جعل القطاع الأوسع من الشارع يستمر في البحث عن الأقوى في مركز السلطة، بالتأكيد لم تكن الظروف ولا الوقت يتيح ذلك؛ لكن على الأقل لم نستطع تصدير تلك الفكرة إلى الشعب وبقيت الرغبة في أن تكون الدولة هي المركز الكبير وربما الوحيد لكل المجتمع، ولكنها في الحقيقة معادية له حتى وإن كان على رأسها ملاك منزل.
لذلك كان التركيز الكبير من الثورة المضادة على أن النظام الناتج من الثورة هو نظام ضعيف لا يستطيع حماية الجماهير ولا يستطيع توفير احتياجاتهم، وذلك حتى يتطلع الشعب إلى مركز آخر، وقد دخلت الثورة في صراع لتأكيد قدرتها على أن تكون مركزا بديلا بدلا من أن تعلن أنها تريد أن يصبح المجتمع مركزا للسلطة أو على الأقل شريكا للنظام، وأعتقد أن هذا واحد من أكبر أخطاء الثورة.
ففعل الرجل الجالس في الشارع أو أهل الوراق الذين ينادون “إحنا انتخبناك” يشير إلى هذه الحالة تحديدا وهي التطلع للأقوى الذي سيطر بالدبابة على الشارع، إن هذا التراكم الكبير في الشخصية المصرية البسيطة التي ربما عانت كما لم يعاني أحد على مدي العقود السابقة أدى إلى الاستسلام للسلطة مهما كانت وبالتالي يصبح الأقوى هو الأصلح، بالتأكيد القوة جزء رئيسي من معادلة السلطة، ولكن تحول في مصر إلى حالة مرضية مزمنة وتلازمت مع حالة من الاستسلام والإذعان لتلك السلطة وانتظار كل شيء منها فهي من تملك حق المنع والمنح .
ولذلك فالمفاجأة التي تمارسها السلطة الحالية للمصريين أنها لا تعتني بهم، فقد علقتهم في حبال ذائبة كما يقولون في بلادنا مصر وأصبح الجميع بلا بديل إلا الصراخ في الشوارع ” إحنا انتخبناك” ليؤكد المصريون أنهم كما هم ملتزمون بتلك الوثيقة غير المكتوبة وعلى السلطة القوية أن تقوم بما يجب عليها طبقا لهذه الوثيقة.
إلا أن النظام الحالي – وهو أقرب لسلطات الاحتلال – لم يعد يهتم بها فقد أخضع هذا القطاع البائس من الشعب لتلك المعادلة على مدى عقود طويلة؛ معادلة الإذعان الكامل للقوة في مقابل الحياة- والآن لا زال الإذعان مستمرا – مع بعض مؤشرات الضجر المتصاعد – ولكن في مقابل الموت لكل من لا زال متمسكا بتلك الوثيقة التي مزقها الخونة بلا رجعة.