لا يوجد مثال واضح حول كيفية التعامل مع الجماهير كما يحدث مع جماهير كرة القدم، ولذلك أصبحت –أو جعلوها كذلك- اللعبة الشعبية الأولى في العالم، وكما أعتقد أنها دُفِعت أن تكون كذلك، فما عليك إلا أن تحشرها في أدمغة الشعوب ليل نهار وتحجب أي شيء آخر.
لقد أصبحت هذه اللعبة هي المسار الطبيعي البديل للغضب الجماهيري وأصبحت المكان الذي يمكن أن يعلن فيه كل منا عن تمرده وغضبه دون أن يحاسبه أحد، فكل شيء متاح وقد وصلت الأمور في بعض الأحيان إلى قتل لاعبين أو حكام، أما ما يتعلق بالسباب أو تكسير بعض المقاعد أو غيرها فهو متاح بل أصبح مشروعا في عالم جماهير كرة القدم.
يبدو أن التمرد جزء من أي مجتمع ولن يخلو مجتمع ما من المتمردين؛ إلا أن هؤلاء المتمردين القادرين على إدراك المسار الصحيح الذي ينبغي أن يتحركوا فيه وإلى العدو المباشر الذي ينبغي التمرد عليه ليسوا بالكثير، ولكنهم يحملون روح التمرد.
هؤلاء يجدون مسارات كثيرة للتمرد ولكنها خطيرة وثمنها فادح؛ وبالتالي لا يجدوا مجالا أكثر سهولة يمكنهم التعبير عن غضبهم من مجال عالم جماهير كرة القدم؛ فمن حقك التجمع في عدد جماهيري كبير ولكنه محاصر، ومن حقك الصراخ بأقصى ما تريد وبكل ما تريد في مساحة الصراع الحاضرة، ومن حقك أن تلعن الحكام بكل ما تمتلك من قوة.
لقد تمت صناعة حالة مصغرة، كما عرضت أحد الأعمال الفنية فكرة عمل شارع جانبي داخل الجامعة لمظاهرات الطلاب ولا مانع من بعض الإطارات المحروقة وحتى بعض جنود الأمن المركزي المزيفين المضروبين، أي أن الهدف هو محاولة لامتصاص التمرد الحتمي بالمجتمع داخل مساحات تحت السيطرة حتى ببعض الخسائر.
ولا أعتقد أن هناك أفضل من مجال كرة القدم وجماهيرها لفعل ذلك. وما نشاهده في دولنا البائسة من تدخلات سياسية عليا من أجل الإفراج عن جماهير لكرة القدم يؤكد أن المشكلة ليست في التمرد على القانون أو العدالة؛ ولكن المشكلة في التمرد في المساحات الممنوعة؛ فهي رسالة لكل من يحمل قدرا من الغضب أن يذهب لملاعب كرة القدم.
إذا لماذا يتعامل النظام المصري بكل هذه الوحشية مع مشجعي الكرة في مصر من الألتراس بأنواعه وانتمائاته؟ أليس هذا منافيا لما يذكر الآن؟
إن خطورة السنوات السبع السابقة في مصر على الطبقة الحاكمة أن كل مساحات الغضب التي تركها النظام تجمعت في لحظة ما وتحولت إلى غضب حقيقي موجه في مسار صحيح ضد النظام الحاكم، فقد كانت كل مسارات الغضب سواء كرة القدم أو حتى المسارات السياسية موجودة لتعديل مسارات الغضب إلى مساحات تحت السيطرة، أما وأنها لم تحقق ذلك بل استطاعت قوى ما إعادة تشكيل مسارها وتحريكها إلى المسار الصحيح فعلينا أن نغلقها جميعا ونعيد بنائها لتحقق المطلوب.
لقد كان الألتراس “مشجعو الكرة الأكثر تمردا وتنظيما” مدعومين من النظام السياسي؛ وكانت هناك محاولات لتعظيم دورهم وجعلهم المكان الأفضل والأسهل لجمع كل الشباب الذي يملك إمكانات حركية أو قيادية؛ لم ينجح ذلك؛ بل كانت تلك التجمعات لها دور لافت في كل الأحداث الكبرى للثورة المصرية حتى الآن، ولذلك لم تعد –على الأقل حتى هذه اللحظة – هذه المساحة مقبولة، فلم يتم بعد ضبط مجالها حتى تعود كما كانت.
ولذلك لا مشكلة في تحويل المشجعين إلى المحاكمة العسكرية من أجل بضعة كراسي، و على العكس ؛لا مشكلة في الإفراج عن مشجعين ليسوا مصريين لا يمكنهم التمرد في مصر ولا مشكلة أيضا أن تستغل الدولتان هذا الحدث في إرسال رسائل للشعبين.
المصريون رسالتهم أن كرة القدم لا تزال مساحة مقبولة للتعبير عن الغضب ولكن أنتم أخطأتم بتجاوز ذلك ويجب معاقبتكم، أرأيتم كيف يخرج المشجعون حتى لو كسروا كل شيء؟ والأردنيون رسالتهم انظروا كيف يمكنك فعل أي شيء؛ كسر كما تشاء واغضب كما لا تغضب من قبل ولكن داخل الاستاد وبعيدا عن الشارع وأنا سأنقذك.
فعندما تجد مدرجات كرة القدم قد امتلأت بمشجعي الألتراس بشكل منتظم وعندما تجد الأحزاب السياسية قد بدأت في العمل المنتظم “فهما سواء في النظم الديكتاتورية العسكرية” فيمكن أن تشعر باستقرار النظام وأنه أعاد ضبط المجالات الحيوية لتفريغ التمرد في مساحات آمنة، أما إذا استمر الوضع الحالي فلا زال النظام لم يستطع بعد ضبط تلك المجالات ولا زالت تمثل له تهديدا ما، ولا زال يخشى من تكرار سيناريوهات الماضي القريب.