منذ قرون عدة أعلنت الحضارة الغربية موت الإله، واعتبرت أن استمرار اعتناق حضارات أخرى لفكرة وجود الإله هي فكرة متخلفة يجب محاربتها، والسياقات التاريخية للحضارة الغربية وسيطرة الكنيسة على مجريات تاريخها الطويل قبل عصر النهضة كان حافزا رئيسا في إعلانهم لموت الإله من وجهة نظرهم.
إن كل الحضارات والأديان والأفكار الكبرى تناقش العلاقة بين الإنسان والإله والكون، وعندما يقرر أحد ما غياب الإله عن هذا المثلث، تتحول العلاقة إلى علاقة بين الإنسان والكون فقط، ويبدو أن وجود هذا المثلث حتمي، وفي غياب الإله ينتج العقل إلها زائفا حتى لو كان هذا الإله هو العقل نفسه، أو أي شيء آخر يملأ تلك المساحة الفارغة.
هذا التشوه الكبير يبدو أنه ينتج تأثيرا سلبيا على توازن هذا النظام، فيحدث خللا ما، إلا أن تسخير الله الكون للإنسان كما هو مذكور في القرآن الكريم يجعل الخلل الأكبر يكون من نصيب الإنسان.
فالقواعد تصبح كلها نسبية، ويصبح العقل أو غيره هو المحدد للمعايير والقيم، بل يصبح العقل هو الحكم الدائم في كل الأمور.
ولأن العقل محاصر على أفضل التقديرات بمعيار الزمان والمكان؛ فيصبح حكمه جزئيا، وتزداد الأزمة عندما يخبرنا الواقع والتاريخ أن القواعد والقيم والقوانين يحددها دائما الأقوى، وفي الأغلب -حتى مع افتراض حسن النية- تكون في صالح جزء ما من البشر، على حساب الآخرين.
ولذلك، فوجود التشريع خارج سلطات البشر وارتباطه مباشرة بكلام الله، هو أحد الأمور المفصلية في بقاء البشر أحرارا وخارج المعايير النسبية أو الطبقية -سمها ما شئت- التي يتحكم بها الأقوى كما ذكرنا، ولذلك كان من المستحيل الوصول إلى التحكم في البشر دون موت الإله.
ولا شك أن الانحرافات الكبيرة في أصول الأديان الناتجة من الفهم البشري ساهمت في حدوث ذلك، إلا أن الخلل هو الهروب سريعا إلى القضاء على فكرة الدين والإله بدلا من الهروب إليه، ولا أجد آية أكثر تعبيرا عن ذلك من قول الله تعالى: “ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين”.
لا مشكلة في بقاء إله رمزي يعبد في احتفالات كرنفالية أو طقوس، أما العبادة بمفهومها الحقيقي فهي العائق الأكبر أمام النموذج الجديد.
لم يكتف النموذج الجديد بذلك بل أعلن عن موت الإنسان أيضا، فلم يعد تحويل كل المجتمعات إلى أفراد منعزلين وتفتيت كل التجمعات البشرية وترسيخ الفردية في كل ما نتعلمه كاف.
وفي مقولة للدكتور عبد الوهاب المسيري، فإنه “حينما أعلن نيتشه موت الإله فإنه كان يُعلن -في واقع الأمر- موت الإنسان. فإذا مات الإله -على حد قول نيتشه- كان على الإنسان أن يعيش في عالم مادي طبيعي، شيء مصمت، ويتحول هو نفسه إلى كائن طبيعي مادي يقف “شيئاً” بين الأشياء، أي أنه هو الآخر يموت”.
فلا وجود لمفهوم الإنسان دون وجود الله، وفي غيابه يتحول إلى جزء من العالم المادي الذي سيقتل الإنسان حتى لو بدا حيا.
هذه المقدمة ضرورية قبل محاولة فهم السبب في الإصرار على عناد الله الذي لا يزال حيا في عقول ووعي الكثيرين، فبالتأكيد ليست المشكلة في نسب الميراث ولا قضية العدالة، ولكن القضية المركزية هو محاولة نزع الله من الوجود الحقيقي بيننا وقصره على الكرنفالات أو الطقوس.
فلم تعد الحروب على غلق المساجد، فهي مفتوحة في المدى المحدد وهو إقامة الشعائر، أما دون ذلك فهو ممنوع تماما، فتلك هي المساحة المتاحة.
منذ مئة عام، كانت حملات إغلاق المساجد ومنع حتى مراسم الصلاة هي الأساس، أما الآن؛ فادخل المسجد كما تشاء وافعل ما تشاء من صلوات، فشلوا في إقناع حضارتنا بموت الإله، فقرروا حصر وجوده في المساجد.
وبعد تحقيق نجاحات في ذلك، وتدمير كل القوى المجتمعية التي تؤمن أن الله حي لا يموت في كل مكان على هذه الأرض والسماء، والحرب الشعواء الكبرى على كل الأفكار القديمة، بل وصناعة كنيسة في كل دين؛ بدأوا في السير على طريق “التقدم” ونزع كل ما له صلة بالله في المجتمع.
إن موضوع الميراث هو من أكثر النصوص القطعية الدلالة في القرآن الكريم القطعية الثبوت، لذلك فهي ضربة مركزية لكل شيء له علاقة بالفكر الإسلامي المبني قطعا على نصوص القرآن الكريم، فعندما تضرب أكثر النصوص وضوحا فكل شيء سهل بعد ذلك.
الخطورة أن هناك تفسيرات تعتمد على معايير العدالة وأن الزمن متغير والظروف تتغير، وكأن القائلين بذلك يعلنون بشكل غير مباشر -سواء بقصد أو بدون- أن النص القرآني نص زمني، بالتالي نص تاريخي ينزع منه صفة الإطلاق، وهي معركة قديمة للغاية بأشكال مختلفة.
بالتأكيد -كما أرى- هي استمرار محاولة نزع الله من الحياة في بلادنا واستخدام أمثلة شديدة السطحية لتدمير النصوص المتجاوزة للزمان والمكان، ومن الأمور الشديدة السوء هي الجرأة الشديدة في التفسير والتبرير، فمن العدالة ومن تقدير قيمة العقل المحدودة المحاصرة بالزمان والمكان أن تتواضع مع الله ومع كلام الله، وعدم الجرأة في تدمير الثوابت باستخدام عدة أفكار قد تبدو مترابطة إلا أنها من إنتاج عقل قاصر ومحاصر.
الميراث ليس القضية، ولكنها قضية وجود الله ومن بعده الإنسان الذي لن ينجو من الموت إلا بالفرار إلى الله.