يمكننا أن نقسم عمليات تزوير التاريخ لجزئين كبيرين؛ أولهما تغيير الحقائق التاريخية المثبتة لصالح مجموعة معلومات وأخبار كاذبة تصنع في عقول كاتبيها؛ وثانيهما حجب كامل للحقائق والمعلومات في أحداث معينة ما يسبب تشوها في المعلومات المتاحة فيؤدي بالضرورة إلى قراءة خاطئة للوقائع التاريخية.
“لقد لاحظت في مرحلة مبكرة من حياتي أن الصحف لا تنقل أبدا أي حدث كما حدث فعلا”، جملة مشهورة عن جورج أويل صاحب رواية “1984”، ويقول أيضا في تلك الرواية: “من يتحكم في الماضي يستطيع التحكم في المستقبل. من يتحكم في الوقت الحالي يستطيع التحكم في الماضي”.
نسمع عن إحدى الدول التي تسيطر على كل مدخلات المعلومات لشعوبها وتعتبر أن أي معلومة متعارضة مع ما تقوله الدولة جريمة تستحق العقاب، وبالتالي فلا مشكلة في أن ترى شعبا كاملا مقتنعا بحدث لم يحدث أصلا، وهذا هو النوع الأكثر قسوة من التشويه وهو تغيير الحقائق المثبتة لصالح أكاذيب لا تمت للحقيقة بصلة.
وربما حدث ذلك في الماضي كثيرا وخاصة عندما كان التوثيق محدودا وكان عدد القادرين على ذلك محدودا أيضا، ويبدو أن ذلك مستبعدا في الوقت الحاضر مع صعوبة السيطرة على تدفق المعلومات؛ ولكن الواقع والتجربة تثبت أن المشكلة المعاصرة ليست في سهولة تدفق المعلومات؛ بل في التحكم في مدخلات العقول والتحكم أيضا في صناعة الوعي التي تمكن الأنظمة من السيطرة على التاريخ، فلن يكون مستغربا أن نقرأ في كتب التاريخ بعد عدة عقود – لو استمر التراجع للثورات العربية – أن من قاموا بها مجموعة من المجرمين استطاعت “الدولة والشعب” القضاء عليها.
إن التاريخ المكتوب من الأنظمة المستبدة كثيرا ما يحمل زيفا يتناسب طرديا مع مستوى الاستبداد وتزييف التاريخ ليس حكرا على المستبدين ولكنه حالة عامة إلا أن غياب الاستبداد يجعل هذه العملية في أقل نطاق ممكن أو هكذا نظن. وإذا اتفقنا على هذه الفرضية فربما لن نجد الكثير من الأنظمة غير المستبدة في هذا العالم.
بالتأكيد لا يمكن لأحد إخفاء الحقيقة بشكل كامل؛ إلا أنه من الممكن إخفاء الحقيقة على الغالبية من الجماهير مما يمكن النظام من رسم الصورة التي يريدها عن طريق المعلومات والتاريخ المزيف الذي يصدره، مع اعتبار أن القلة التي تدرك الحقيقة هم مجموعة من الحمقى المتمردين، وبذلك يرسم ماضيا مزيفا أمام الكثير ممن مهد عقولهم للقبول، ويسيطر على أدوات صناعة الوعي، وبالتالي يصنع حاضرا مشوها مبنيا على ماض مزيف ويمهد الطريق لمستقبل أكثر زيفا.
هل يحدث ذلك؟ أعتقد نعم يحدث والوقائع المعاصرة والماضي القريب يشير إلى ذلك، وقد وصلت السيطرة على صناعة الوعي والعقل إلى مستويات مفزعة، حتى يمكن القول إن الكثير من الأمور المعلنة يمكن ألا تمت بصلة بالحقيقة وتعتمد بالأساس على رغبة صانع الوعي؛ لا على الأحداث نفسها، وخاصة مع التنميط الشديد في عقول الجماهير.
ونأخذ مثالا على ذلك من مصر مجتمع المئة مليون عربي الذي أصبح يعادي الصديق ويصادق العدو؛ فلا شك أن قطاعا شعبيا ما زال تحت الحصار الكبير ولابد من الاعتراف أن صدمة الانقلاب العسكري الدموي هي التي دعت الكثيرين إلى التعامل بشكل مختلف مع ما يوضع في أذهاننا من معلومات ووضع فرضية أننا ربما نحتاج للتفكير بشكل مختلف.
والحروب أحد الأمثلة الكبرى على ذلك، فالمنتصر دائما هو صاحب الرواية الأكثر انتشارا، ولكن إذا استطاع المنهزم أن يفرض وجهة نظره على قطاع واسع من تابعيه فهي مهارة في الباطل تستحق الدراسة. ففي 48 حدثت هزيمة لما يسمى الجيش المصري وكل الجيوش العربية، وبدلا من التعامل مع هذه الحقيقة بدأ صناع الوعي في اختراع حكاية الأسلحة الفاسدة التي أصبحت هي الرواية الرسمية دون أي أدلة منطقية.
ثم جاءت حرب 56 وحدثت هزيمة أخرى لما يسمى الجيش وأكد الشعب أنه هو المقاتل الحقيقي في مصر كما حدث في حرب 48، ولكن الرواية الرسمية أننا انتصرنا في تلك الحرب دون أدنى دليل، ثم كارثة 67 الكبرى التي تحولت الهزيمة المذلة إلى نكسة في مسار الانتصارات.
الحروب الثلاث هي هزيمة بكل المعايير العسكرية ففي الأولى خسرنا فلسطين والثانية خسرنا السيادة على خليج العقبة وغيرها من معايير السيادة المعلنة على الأقل، وفي الثالثة خسرنا سيناء وكرامتنا معا.
ثم جاءت الحرب الرابعة؛ حرب أكتوير 73، وهي لا زالت النقطة التي يستمد العسكر منها شرعية وجوده، فإعلان هزيمته في تلك المعركة بمثابة الإعلان عن أن وجوده انتهى، فالجيوش لا يمكن أن تستمر مع عدم قدرتها على الانتصار أو حتى خوض حرب، فكان لابد من إعلان الانتصار حتى لو كان فقط في أذهان الجماهير.
إن كل النتائج المترتبة على حرب أكتوبر بداية من اتفاقية فض الاشتباك الأول والثاني وحصار الجيش الثالث في السويس ومعاهدة الخيانة المسماة كامب ديفيد وعزل سيناء وتهجير سكانها وبيع الجزر هي خط واحد لنتائج الخيانة التي أدت إلى هزيمة 73 التي أدارها العسكر وقياداتهم بعد أن قام شعب مصر وأمثال البطل سعد الدين الشاذلي بتحقيق انتصار في الأيام الأولى للمعركة.
إن الحديث في هذا الأمر ربما يثير غضب البعض، ويرون أنه لا داعي لتدمير أحد المفاهيم التي تزيد من الشعور بالفخر لدى شعب مصر، إلا أنني أرى أن ذلك غير صحيح، فما حدث في أكتوبر 73 مهما كانت نتائجه يدعو إلى الفخر لكل شعب مصر الذي تحمل فوق طاقته منذهزيمة 67 حتى الحرب في أكتوبر 73 وضحى بشبابه للتحضير للمعركة، ولكن من يحمل العار هو العسكر الخونة وقياداتهم التي حولت الانتصار الجزئي الذي قام به الشعب إلى هزيمة عسكرية، وما يتم تدميره بهذا الحديث هو هالة الانتصار التي وضعها ما يسمى الجيش المصري على رأسه ويطوف بها في مصر يدمر ما يشاء.
لقد انتصر الشعب وسينتصر دائما، أما الخونة فهم أصحاب الهزائم والعار، وإظهار الحقائق من الماضي تجعل الحاضر مهما كان مؤلما يستطيع التمهيد لمستقبل أفضل بعيدا عن العالم الموازي الذي يصنعه متلاعبو العقول؛ ويُمَكِّننا من رسم مسارات صحيحة للتخلص من الخونة والخيانة.