يعرف المال الخاص على أنه ما دخل في الملك الفردي، سواء كان مالكه واحدا أو أكثر من واحد. فهو ليس ملكية شائعة بين عامة الناس ولا مباحا لهم. أما المال العام، فهو المال غير الداخل في ملك الأفراد، وإنما يخضع للمصلحة العامة. فالمال العام هو المال الذي يشترك في ملكيته الجميع، ولهم جميعا حق الانتفاع به، ولا يحق لأحد أن يجعله في مصلحته الشخصية بقصد التربح أو سوء الاستغلال أو السرقة أو الإتلاف بسوء الاستعمال.
وهناك صعوبة في أي نظام مجتمعي في الفصل الحاسم بين المال العام والخاص. فمثلا، الطريق يصنف كمال عام ينتفع به الجميع، ويستخدم الجميع ذلك الطريق لقضاء مصالحهم، ومنها بالتأكيد العمل الذي يؤدي إلى اكتساب ثروة. ويختلف حجم الثروة المكتسبة من شخص إلى آخر طبقا لطبيعة العمل، ومكانة الشخص نفسه في البنية الرأسمالية. فالعامل الذي يستخدم الطريق للحصول على ما يستمر به في الحياة لا يمكن مقارنته بصاحب المصنع الذي يعمل به، وبالتالي هناك اختلاف في حجم الاستفادة من الطريق ينبغي حله.
أفكار متعددة حول هذه المسألة.. النظم الشيوعية وجدت الحل في إلغاء فكرة المال الخاص، وتحويل كل الأموال إلى أموال عامة فيما يتعلق بكل وسائل الإنتاج، والنظم المعاكسة الرأسمالية وجدت الحل في الضرائب، لتصبح هي الوسيلة لاستعادة حجم الاستفادة من المال العام لإنتاج الثروة في صورة ضرائب تصاعدية بشرائح مختلفة، بينما نظم ما قبل الدولة الحديثة والعلمنة بشقيها؛ لم تكن بهذا القدر من السيطرة الشاملة “باستثناء النظام الإقطاعي”، والنظام الإسلامي – على سبيل المثال – كان يمثل نظام الحد الأدنى الذي يبتعد عن إدارة معظم الملفات، وكان بناء البنية التحتية والدفاع هو شاغله الأكبر، وبالتالي الضرائب كانت جزءا من حل مشكلة الطريق المطروحة كمثال.
على أية حال، ليس الهدف هو المقارنة الآن، وأي من هذه الأفكار قد تقبل كحل طبقا لرؤية صاحبها؛ والحديث الآن عن دخول الاستبداد أو الاحتلال كطرف مكمل لأي من الحلول السابقة، فيصبح نظام شيوعي استبدادي أو رأسمالي استبدادي أو حتى إسلامي استبداداي.
عند دخول الاستبداد كعنصر في بنية السلطة؛ يبدأ الخط الفاصل بين المال العام والخاص في التلاشي وتزداد صعوبة الفصل بين العنصرين، إن الحكم الاستبدادي يستخدم كل الأدوات المتاحة في السلطة – وهي كاسحة في النظم الحديثة – لتحقيق مصالح الطبقة الحاكمة المستبدة، سواء في مجال السلطة أو الثروة، فيقضي على كافة الأفكار الأخرى ويشوهها باستخدام المال العام الممثل في وسائل التعليم والثقافة والإعلام.. نلاحظ أن تلك الأدوات في النظم الحديثة، بشقيها الرأسمالي والشيوعي، إما ملك لأصحاب رأس المال أو للدولة، كما تشرع القوانين واللوائح، لتخدم تدفق الثروة لأصحاب رأس المال المنتمين للسلطة والمساندين لها، سواء بقوانين تزيد من استغلالهم الكبير لموارد المجتمع دون حساب، أو بإصدار قوانين جائرة في حق العمال وقيمة العمل، أو بتقليل الضرائب وإيجاد وسائل متعددة للتهرب الضريبي، وبالتالي يتحول المجتمع رويدا رويدا لأن يكون مجموعة من الأرقاء عند أصحاب السلطة والثروة في رأس هرم الدولة، ويزيد معدل تدفق المال العام الذي أصبح خاصا بالقوانين والسيطرة إلى رأس السلطة.
ليس ذلك فقط، فالاستبداد يزيد من معدلات الفساد والفاسدين داخل مؤسسات الدولة، وبالتالي يبدأ قطاع واسع من غير المنتمين لرأس السلطة في استخدام منظومة الفساد لتحقيق ربح غير حقيقي، والتغول أكثر على المال العام.
وحتى تتضح الصورة، نذكر مثالا آخر؛ عن صاحب مصنع صغير في مدينة ما، لا ينتمي للطبقة الحاكمة، إلا أن منظومة الفساد المرتبطة بالاستبداد عندما تتغول تلوث كل مال ناتج عن نشاط رأسمالي بالمال العام.. فصاحب هذا المصنع يستفيد من العمال والمهندسين والإداريين العاملين عنده، والذين يعملون بمال عام ملك للشعب دون جنيه واحد منه، كما أنه يستفيد من القوانين الجائرة بحق العمال لتقليل حقوقهم في المشاركة في الربح، لتعظيم ربحه، وأيضا يستفيد من البنية التحتية المنتجة من المال العام. كما قلنا الضرائب قد تحل هذه الإشكالية، إلا أن النظم الاستبدادية لا تستخدم الضرائب في المكان الصحيح، ولا تعيدها إلى الشعب، صاحب الحق الأصيل، ولذلك يصبح دفع الضرائب في تلك الحالة كمن يعيد مالا اقترضه من شخص ما إلى أول لص يقابله في الطريق.
لذلك، فالاستبداد في أي من النظم المذكورة أو غيرها، يحطم الفاصل بين المال العام والخاص، وتصبح القوانين والقواعد التي ينتجها النظام هي منظومة حماية للصوص والفاسدين، وأدوات سرقة علنية للملايين من الشعوب، ويصبح النظام والقانون والمؤسسات في هذه الحالة عبئا على المجتمع، بل وسارقا صريحا له، ويصبح حتى الاستثمار جزءا من هذه السرقة المعلنة.
هذا الأمر شديد التعقيد، وفيه الكثير من التفاصيل التي تحتاج لتفسيرات أكثر وضوحا وعمقا، كما يحتاج لدراسات معمقة في تأثير الاستبداد على تدمير فكرة المال الخاص، وعلى تقنين السرقة الصريحة. ومن المفهوم أن تقوم النظم الاستبدادية بسن التشريعات والقوانين التي تحافظ على استمرار احتكارها للسلطة والثروة، وترسيخ المفاهيم والأفكار المضللة عن حرية رأس المال، وغيرها من الأفكار التي تبث في عقول الجماهير، للحفاظ على الوضع كما هو؛ ليزداد رسوخهم وتزداد شرعنة سرقتهم.. أما غير المفهوم، فهو وجود قطاعات تنتمي للشعب والمجتمع، وتريد تحريره من الاستبداد والفساد، تؤيد هذه السرقة بحجج متعددة.
وأعتقد أننا نحتاج لإعادة قراءة المفاهيم والثوابت القديمة التي نشأت في بيئات اجتماعية ونظم سلطة مختلفة؛ حتى لا نكون مساهمين بشكل أو بآخر في سرقة الشعوب والبشر، والأكثر احتياجا لذلك هي النظم الفكرية الإسلامية التي تتعرض لأقصى درجات الظلم والعداء الممنهج.