تحت رفرفة أعلام النصر المرفوعة على أعلى ساريات بالقارة الأفريقية، وقف المسؤولون الإثيوبيون مزهوين منتشين وفرحين بانتهاء العمل في بناء سدّ النهضة. وظهر هذا جليا في تصريح رئيس الوزراء آبي أحمد، معلنا البدء في ملء السد بالمياه في شهر تموز/ يوليو القادم تمهيدا لتشغيله في توليد الكهرباء، بينما قال وزير الخارجية الإثيوبي غيدو أندارغاشيو إن بلاده ستمضي قدما وستبدأ بملء سد النهضة الشهر المقبل وفقا للجدول الزمني المحدد، حتى من دون اتفاق مع مصر والسودان. أما نائب رئيس الأركان برهانو جولا، فقد أعلن عن قدرة بلاده على مواجهة التحديات وجاهزية جيشه للتصدي لأي اختراق هدفه الإضرار بالسد.
باستكمال بناء السدّ على الهضبة الإثيوبية، حيث منابع النيل الأزرق الذي يعدّ شريان حياة لمصر ويمدها بمعظم احتياجاتها من المياه، يكون حلم أوروبا القديم قد تحقق، منذ أن طلب البابا ألكسندر السادس من الرحالة فاسكو دي جاما في رحلته للهند عبر رأس الرجاء الصالح؛ أن يتحدث إلى ملك إثيوبيا المسيحي عن وسيلة يتحقق بها وقف تدفق الماء خلال نهر النيل الأزرق، لإضعاف أو خنق مصر المتصدية للحملات الصليبية المتكررة. واستمرت الفكرة قائمة حتى حينما احتل الإيطاليون منطقة القرن الأفريقي، وقتها وجّه موسوليني بعثة هندسية لدراسة إهدار مياه بحيرة تانا باتجاه المحيط بدلا من تدفقها في النيل الأزرق.
وخلال الحقبة التاريخية الطويلة، منذ ظهور فكرة حرمان مصر من مياه النيل حتى تمام بناء سدّ النهضة (وبالذات في أثناء العقود الأخيرة التي ارتبطت بالحكم العسكري في مصر)، فإن مجمل الدور المصري اتسم بالغفلة واللامبالاة والتحلل التدريجي من دور مصر في أفريقيا، وخاصة مناطق حوض النيل التي خلت لآخرين وفي مقدمتهم الصهاينة للعبث فيها، بما يهدد الأمن القومي المصري، حيث بدأ حلم آخر (صهيوني هذه المرّة)، عندما زار تيودور هرتزل مصر عام ١٩٠٣م لبحث زراعة مساحة أرضية في سيناء تروى بماء النيل كنواة لإنشاء الكيان الصهيوني، ليتطور الأمر لاحقا لتوصيل المياه حتى عتبة الأراضي المحتلة من فلسطين.
نجحت إثيوبيا نجاحا باهرا في التوصل إلى ما تريد لبناء سد النهضة، من حيث توفير التمويل وحشد الدعم وتوحيد جبهتها الداخلية، وإن كانت متهمة بالمراوغة والتسويف خلال المباحثات مع مصر والسودان، إلا أن المعلوم في علم السياسة بأن هذا الأسلوب يندرج تحت مسميات الحنكة والمهارة في الوصول إلى الهدف والحصول على الغرض، بينما اتسم المفاوض المصري تحت حكم العسكر بضعف طرح الحجّة وافتقار القدرة على المناورة، وكل ما يتذكره المتابع عن دور المفاوض المصري في أثناء لقائه مع الإثيوبيين، هو الشجار مع “ميكروفون الجزيرة”.
من شواهد عديدة (كبيع جزيرتي تيران وصنافير، والتنازل عن مساحات مصرية شاسعة شرقي البحر المتوسط وشبه جزيرة سيناء، وصفقات سلاح غير ضرورية)، فإن الكثيرين يتحدثون عن أن زعيم الكيان الانقلابي في مصر بتخطيه إجراءات أساسية معروفة بين الدول عند إقامة السدود؛ إنما فعل ذلك للحصول على شرعية يفتقدها بسبب انقلابه على رئيس البلاد المنتخب، ولاضمحلال شعبيته المصاحبة لحكمه طوال السنوات السبع الماضية.
كذلك ينتشر بين المصريين اتهام لرأس الكيان الانقلابي، مبني على الموقف الرخو والهزلي الذي يسلكه في التعامل مع موضوع السد، أن الغرض الوصول لتأزيم الموقف بحيث يكون من السهل قبول توصيل المياه إلى الكيان الصهيوني، كحل يرضي المصريين، وهو مشروع بدأه السادات بحفر ترعة السلام وأكمله السيسي بإنشاء سحارات ضخمة تمر تحت مجرى قناة السويس باتجاه الشرق.
في خضمّ كل هذه الأحداث وما صاحبها من شد وجذب، ومن خلال مخطط مدروس، شاركت آلة السيسي الإعلامية والأجهزة الانقلابية كافة، في توجيه انتباه المصريين بعيدا عن الخوض في موضوع سد النهضة وعواقبه الكارثية على مصر والمصريين، وذلك بسلسلة من المشاغل اليومية كارتفاع الأسعار، وبرامج التلفاز، والحوادث، والعنف في سيناء، وظاهرة الإلحاد، وفضائح الجنس، وتحديث الخطاب الديني، وجائحة كورونا، والنزاع في ليبيا، ثم بمطالبة الجامعات وجهات البحث العلمي بعدم قبول مناقشة رسائل لها علاقة بمشكلة المياه في مصر، وإعلان المجلس الأعلى للإعلام حظر الحديث في عدة قضايا على رأسها سدّ النهضة، واختتمها السيسي بأن يصبح هو مصدر المعلومات الأوحد. وبهذا يكون الانقلابيون قد نجحوا في الحيلولة دون الحوار المجتمعي لأخطر قضايا الأمة المصيرية (تكون أو لا تكون)، والكل ينتظر مذهولا حلول الفاجعة بساحتهم.
فهل بقي شيء يمكن القيام به؟
مشكلة سد النهضة عويصة ومتشعبة، وما يهم منها في المرحلة الحالية هو ملء السد بمياه الأمطار للبدء في توليد الكهرباء، وهذا يستغرق عدة سنوات تبعا لهطول الأمطار الموسمية وحجزها أمام السدّ طوال فترة الملء. وهذه الخطوة تعتبر بداية الطريق في اختفاء مصر من فوق سطح الأرض إذا لم يحسن معالجة القضية بين الأطراف المعنية.
الذين قاموا بالمباحثات والتفاوض من الدول الثلاث، هم الموظفون الرسميون وهم غير دائمين في مناصبهم، وكيان السيسي المتسبب في تدهور الأوضاع والتفريط في حق مصر في مياه النيل زائل لا محالة، وسيظل زواله مرتبطا بجريمة إقصاء الشعب المصري عن مناقشة مسألة مرتبطة ببقائه أو فنائه، بفرضه الصمت المطبق عليه بقوة السلاح، فأصبح صوت شعب مصر هو الغائب طول الوقت في محادثات إقامة السد.
وبما أن الشعوب هي الباقية، وهي لا ترضى أن يكون مستقبل العلاقات بينها مفعوما بالمشاحنات وسوء النية وإنكار الحقوق والمصالح المتبادلة، كان لزاما أن يتواصل الشعبان المصري والإثيوبي بعضهما مع بعض لإيجاد حالة من التفاهم المشترك. وباستحالة هذا في ظل الأوضاع الاستبدادية التي يمارسها العسكر ضد شعب مصر، وغياب قيادات الشعب داخل معتقلات الانقلابيين، فلم يبق سوى أن يتولى هذه المهمة المصريون في الخارج.
وفي رأيي أن يقوم المجلس الثوري المصري (بما له من نشاط ملحوظ ومن خبرة وباع في التواصل مع مسؤولين في العديد من الدول لشرح القضية المصرية)، بالتنسيق مع الهيئات والمنظمات المصرية في الخارج، لتكوين فريق لمقابلة المسؤولين الحكوميين في إثيوبيا، ورؤساء الأحزاب وأعضاء المجلس النيابي وزعماء الطوائف، وذلك بغرض الحصول على تأييدهم لمدّ سنوات ملء خزان سد النهضة، مما سيقلل من الأثر الضار عما إذا مضت إثيوبيا في قرارها الحالي.
وبإمكان الوفد المصري الاستفادة من مواقف في علاقات البلدين لتذكيرهم بها، مثل الموقف التاريخي للنجاشي ملك الحبشة، والعلاقة الطيبة بين قطاع كبير من مسيحيي إثيوبيا وأقباط مصر، وعضوية مصر وإثيوبيا في منظمة دول عدم الانحياز والاتحاد الأفريقي. وبإمكان الفريق أيضا الاستعانة والاستفادة من وساطة المسلمين الإثيوبيين.
لعل أي انفراج في هذه الأزمة لا ينسي المصريين أكبر أزماتهم، وهي استمرار العسكر في حكم مصر.