مصادر المؤامرة هم مساعدوه ومستشاروه ومؤيدوه الذين هم على دراية تامة بقدرات السيسي العقلية سواء في الماضي أو الحاضر. فعلى سبيل المثال، خلال نشأته أقرّ بضرب الأولاد له ورغبته في الانتقام منهم حينما يكبر، وها قد كبر فانتقم ليس منهم فقط؛ بل أيضا من البنات والرجال ومن الكبار والصغار والعجائز، وهناك الآن من وُلد ويتربى في السجن لأول مرة في مصر.
وكذلك حينما وصفه قادته بما ينتقص منه ويقلل من قيمته انتقم لاحقا من معظمهم بالحبس في البيوت والمنع من التجوال، وبالرغم من معرفتهم حدود إمكاناته وضحالة معلوماته فإن معاونيه يدفعونه للخوض في ما لا يقوى على منازلته، مثل مقابلات الصحفيين والمحللين وهم على درجات متفاوتة من التعليم والثقافة والاطلاع تعلو كثيرا على ما أوتيه السيسي، فيتسببون في وقوعه في حرج بالغ حينما تحتوي ردوده في النقاش على فقرات من الجهل والكذب والهذيان.
ولقد نشرت صحيفة دي فيلت الألمانية يوم الأحد الماضي (٢٤ نيسان/ أبريل) محتويات مقابلة بين محررة في الصحيفة وبين السيسي، قائد الانقلاب العسكري ومجهض أول تجربة سياسية ديمقراطية في مصر والمتهم بقتل رئيس البلاد الدكتور محمد مرسي، والمتسبب في التفريط في ثروات مصر وإفقار أهلها. وكان لقاء كارثيا مثل كل مرة يتحدث السيسي فيها للصحافة، وأبرز الجوانب الكارثية في الحوار المنشور في الصحيفة هو استنكاره على المصريين تشوقهم وتطلعهم إلى الحرية، فهم قاصرون عقليا وذهنيا ولا يستحقون منحهم هذا الثراء الطبيعي الذي يتمتع به الأوروبيون..
كان أسلوب السيسي مع المحاوِرة لينا متحضرا ولم يكن فظا غليظا كما لو يتحدث للمصريين أو كما قام أحد أبواقه (نشأت الديهي) حديثا بإلقاء الفزع في قلوب الأوروبيين من شبح أول جرعة مليونية من المصريين عابري المتوسط حال اكتمال الملء الثاني للسدّ الإثيوبي، ذلك أن السيسي حتى الآن يستخدم الهجرة أداة استجداء وإن كان عمّا قريب ستكون حتما أسلوب ابتزاز.
ولم يكن محتوى حديث السيسي للصحيفة الألمانية مختلفا كثيرا عن حديثه لشبكة CBS التلفازية منذ بضعة أشهر، إلا أن عدم تصويره أضاع علينا فرصة تكرار مشاهدة تقاطيع وتعابير وجه السيسي المحتقن، وتصبب العرق من مسامه ودخوله في نوبات التهتهة واضطراب الكلمات كأبرز دليل على كذبه وتدليسه، وذلك عندما ألقى عليه المذيع المحاور حينئذ سؤالا عن أعداد المحبوسين على ذمة قضايا الرأي في سجونه ومعتقلاته وأماكن الاختطاف، مما دفع بمساعديه إلى سرعة الاتصال بالقناة التلفازية لوقف إذاعة المقابلة تحاشيا للفضيحة.
في المقابل، فإن نشأة السيسي العسكرية المخابراتية قد فرضت عليه الظنّ بأن كل من يقابلهم من الغربيين يحملون معهم أو وراءهم خزائن أموال تكفي لاستيعاب تسوّله، وهم بذلك يستجيبون لمهمة يتقنها السيسي وهي مدّ اليد. فلقد فعلها مع مدير سيمنز حتى اضطر الرجل لقلب داخل جيوبه لخارجها ليرى خلوها من أي ثروة يحملها. وها هو يعيد المشهد مع مندوبة دي فيلت وإن كان بطريقة مختلفة، فهو يطالبها بصفتها الشخصية أن تمنّ عليه ببعض ما لديها من خبرة في التعليم والصحة ليدير بها المنظومتين في بلد يرأسه هو ويقلل من قيمته دائما، ويصفه في الداخل لمواطنيه وفي الخارج أمام الأجانب بالضائع. وكان مفاجئا للمصريين أن يأتي تسوّل السيسي من مراسلة دي فيلت في اليوم الثاني بالضبط بعد بيان أحد وزرائه بأن مصر قد وصلت في التعليم والصحة مستوى أمريكا وبريطانيا.
برع السيسي واشتهر بقول الأكاذيب والحلف على أن كلامه صدق.. وعند قراءة الردود على أسئلة الصحافية نكتشف أنه فعلا ولأول مرة يذكر حقيقة لا بد من إضافتها إلى رصيده باعتبارها مزحة، حيث قال: “لكن التحريض على الانقلاب أمر خطير وغير مقبول”. ولا أظن أن هفوة أخرى من السيسي في حديثه يقصدها عندما ربط تفشي الفساد والتخلف وتدني الأحوال في مصر بفترة الحكم العسكري منذ انقلاب تموز/ يوليو ١٩٥٢م، كما يُرجع باستمرار هدف الأشرار (الإخوان) من وجودهم في الساحة المصرية وهو القفز على كراسي الحكم؛ إلى بدء تكوينهم قرابة قرن من الزمان.
على السيسي وقف مهاجمة الأشرار وغيرهم بتهمة الرغبة في اعتلاء السلطة، فها هو قد قفز عليها دون أي برنامج أو جدول أعمال، ولم يخف عداءه العلني لكل ما يرتبط بأساسيات الإدارة الحديثة وها قد أوردها موارد الهلاك. وقد استنفد وقته الأصلي والإضافي، أما شعب مصر فعليه استعمال سلطاته في تحسين صورة وطريقة الحكم الذي يختاره لنفسه، وهذه المرة يكون صادقا مع نفسه بعد عملية تطهيرية شاملة كاسحة وساحقة.