خلال الأسبوع الماضي؛ تداولت المنصات الإعلامية مقطعين لفتاة في التجمع تدعي أنها تعرضت لحالة تحرش، كما شاهدنا مقطعا آخر لفتى مصري يتعرض لضرب مبرح من قوات الأمن في إحدى عربات المترو، هذان المقطعان يعبران عن نمط مصري خالص، ونحتاج لنعود للخلف لنرى رأيا قديما قد يجيب على السؤال: لماذا تحول مقطع الفتاة لجدل حول فكرة، بينما تحول مقطع الطفل لجدل مستمر ولا يتوقف منذ ربما مئتي عام حول “رجال الأمن”؟ ربما نحتاج لتوضيح أكثر سيأتي لاحقا.
في كتاب المصريون المحدثون، وهو جزء من موسوعة وصف مصر في 130صفحة، يذكر الكتاب أن المصري يتجنب الدخول في الخطر بقدر ما يستطيع، ولكنه عندما تحيط به الأخطار، فإنه يتصرف بشكل لا تتوقعه. ويضيف الكتاب تأكيده أن مجرد إصلاح نظام الحكم سيعيد إلى هذا الشعب ما فقده من فضائل بسهولة فائقة. هذا الحديث منذ ما يقرب من مئتي عام، فهل ما زال صالحا؟ أرى أنه ما زال صالحا، وهناك الكثير من المؤشرات تدل على ذلك، إلا أننا لن يمكننا حسم هذا الأمر إلا بعد تحرير مصر بشكل حقيقي، وهذا لم يحدث بعد منذ كتابة هذا العمل منذ أكثر من مئتي عام.
أشار الكتاب إلى تجنب المصريين في حياتهم مواجهة الخطر، وبالتالي الحديث عندما يتعلق بالسلطة يكون ترموميتر الإحساس بالخطر عاليا للغاية، أما عندما يكون بعيدا عنها فالحديث يكون مفتوحا بلا أسقف، ويصل إلى نقاط بعيدة وانتقادات معلنة. فالحديث عن فتاة التجمع تحول إلى تنمر متبادل بين من يدعون أنها تعرضت لتحرش ما، ومن يدافعون عن الشاب الظاهر بالفيديو. ما يهمنا في هذا السياق هي حالة الجدل التي تحولت إلى محاولة إعادة تعريف التحرش، ولم يحدد له سقفا ما؛ بل ربما أصبح حديث كل وسائل الإعلام التي غذت الجدال واشتركت في الحوار وأصبح محورا للنقاشات. لقد كان بعيدا عن مساحة السلطة، فقط صراع مجتمعي حول مفهوم ما، لا جاني ولا ضحية، فقط كلام وحوار ولا يتوقع نتيجة ما من كل هذا العبث، المهم أنه يملأ مساحات ويشغل العقل. وفي النهاية، نحن في حالة تشوه اجتماعي كبير تجعل النقاش حول الحدث دون مسبباته، هو استمرار للعبث لا يؤدي أبدا إلى فهم صحيح لتلك الحالة.
أما حالة فتى المترو الذي أبرحه “رجال الأمن” ضربا لأنه يبيع أدوات مدرسية مفسدا القواعد والقانون، لم يأخذ الحدث الزخم الرسمي الإعلامي ولا محاولة نقاش حول المفاهيم، فقط غضب من جهاز الشرطة، وكأنها تعمل وحدها. من المؤكد أن جهاز الشرطة في مصر هو أقل أجهزة النظام احتراما، حتى من داخل النظام، والمؤكد أن الموجودين بالشوارع الذين يمارسون القهر المباشر على الشعب لا يمثلون أدنى قيمة لأصحاب السلطة الحقيقيين في مصر، فقطاع الشرطة كله هو مهان من الجميع، والمتعاملون مع الشعب بشكل مباشر، من أمناء شرطة وجنود ومخبرين، وهم الأكثر إهانة واحتقارا داخل المجتمع المصري كله الذي تحول بفعل تشوه وفساد السلطة إلى مجتمع طبقي. هؤلاء كضباط الصف بالجيش، لا قيمة لهم تماما، ولذلك لا مشكلة في تحميل كل المشكلات لدرع السلطة. والغريب أن الشعب” ربما بدافع الخوف الذي ذكره الفرنسيون”، يحمل أيضا كل المشكلة لهذا الدرع البائس.
صحيح أنهم مجرمون، ولكن أصل الجريمة في هؤلاء القابعين خلفهم. فضرب طفل بهذا الشكل هو أزمة سلطة وليست أزمة جندي متهور، فما ذكر في كتب ووثائق تتحدث عن تعامل الشرطة أو “رجال الأمن” مع المصريين عبر تاريخهم الحديث لم يتغير إطلاقا عبر الزمن، مما يؤكد أنه نمط ثابت لا بديل عنه للنظام: استخدام درع السلطة المصنوع من مواد لا قيمة لها لإذلال الشعب.
إن مقطع فتاة التجمع يشير إلى تشوه حاد في المجتمع المصري، حيث وضعنا في أزمة تعريف لمفهوم التحرش وستظل الأزمة باقية، ولن تحل ما دام التشوه حاضرا. وفيديو ضرب فتى المترو أظهر لنا أصل الأزمة، وهي سلطة تستمتع بإذلال الشعب، وشعب عريق يعاني من سلوكيات الاستبداد التي نخشى أن تتوطن، بعكس ما قال الفرنسيون عنه منذ مئتي عام. ولا زلنا نحمل الأزمة لدرع السلطة عديم القيمة، ونبتعد عن أصل المشكلة في كل حواراتنا؛ وكأنها حالة فردية نادرة وليست نمطا ثابتا دائما أزليا في مصر.
إن فتى المترو سيعود ثانية بوجه آخر، وربما في مكان آخر، وقد يقتل أو يسجن أو يضرب، لا فرق، وستعود فتاة التجمع بوجه آخر وزي آخر، فالزي ليس أصل الأزمة، وسيحدث فعل آخر سيصيبنا بالحيرة تماما كما حدث مع تلك الفتاة؛ ما دام التشوه باقيا ومستمرا، وسنبقى ندور في دوائر الحيرة والهجوم على المكان الخاطئ ما دمنا لا نرى مركز الأزمة؛ وهو الاستبداد المغلف بالاحتلال الضمني. فالحل ليس في عقاب “رجال الأمن” المعتدين، ولا في نقد فتاة التجمع ولا من تدعي أنه ضايقها، الحل في تفكيك مصادر التشوه وكسر نمط الاستبداد الممزوج بالاحتلال ولننتظر معا ونرى؛ هل سيعود المجتمع المصري إلى أصوله وتقاليده القديمة كما توقع الفرنسيون منذ مئتي عام، أم إن التشوه الحاد قد دمر تلك التقاليد والقيم؟