لم تكن قصة “غوغول” القصيرة مجرد عدة صفحات باللغة الروسية تقرأها لتستمع بها لحظات ثم تتركها في أحد رفوف مكتبتك؛ ولكنها تحمل من المعاناة والألم والمفاهيم الاجتماعية المتشابكة ما جعل فيودور ديستوفسكي وغيره من عظماء الأدب الروسي أن يقولوا إننا جميعا خرجنا من معطف “غوغول”.
القصة ببساطة تحكي عن معاناة أحد الموظفين التقليديين من الحياة القاسية ومن التهميش، أو بمعني آخر “الاستبعاد الاجتماعي” فهو يقضي يومه في وظيفته الثابتة، شخص عادي لا يحاول أن يفعل أي شيء ليكون غير عادي، يتقن عمله حتى العشق ربما لا لأنه يريد ذلك ولكن لأنه لم يجد شيئا آخر يحبه كما أظن، فأكاكي مهمل تماما من الجميع وبتعبير غوغول كأنه ذبابة.
يعود أكاكي لبيته في أحد الأيام ويتأكد من تلف معطفه وحاجته الماسة لمعطف جديد. بعد الكثير من المعاناة استطاع أكاكي الحصول على المعطف، حاول أكاكي الخروج من استبعاده الاجتماعي السابق وكان المعطف الأنيق الجديد هو السبب؛ فهو الآن يستطيع، وقرر الذهاب لزملائه في العمل لأول مرة مساء، إلا انه فقده بعد أن أخذه منه أحد اللصوص عند عودته، انهار أكاكي وحاول التواصل مع المسؤولين لإرجاع معطفه له إلا أنه لم ينجح ومات كمدا في خلال أيام.
عبر ودروس
هناك الكثير من التفاصيل العميقة المؤلمة تحتاج أن تُقرأ كما كتبها غوغول بالتأكيد حتى تشعر بروعة النص واستحقاقه أن يكون عباءة الأدب الروسي حقا.
إن معطف غوغول له تفسيرات كثيرة كل منا يراها كما يشاء، فأكاكي هو أحد المظاهر الفجة للحياة على أقصى الهامش، وأن كل من يعيش على أقصى الهامش يحتاج لشيء ما يشعر بوجوده فيه حتى لو كان بينه وبين نفسه، فلم يجد أكاكي إلا النسخ ليعلن عن وجوده، فطوال الوقت في مكتبه بالعمل وحتى في منزله لا يجد متعته الوحيدة إلا في أن ينسخ الأوراق ويستمتع بالنظر إليها، فكل من يعيش على أقصى الهامش له أوراقه وأقلامه التي يعلن فيها عن وجوده، وفي مصر تمتلئ شوارعها ومدنها بأنماط مختلفة من أكاكي، وليس الاستبعاد الاجتماعي فقط مرتبطا بالثروة والفقر، ولكن لكل منا معطفه الذي يريده كي ينقذ نفسه من الاستبعاد الاجتماعي الذي يراه.
فمعطف الفقير الذي يعيش على حد الكفاف كصديقنا أكاكي يختلف عن معطف السياسي المستسلم المتعطش للسلطة؛ الذي بدروه يختلف عن معطف المستبدين المعزولين، فكل منهم يشعر بالاستبعاد وكل منهم يسعى للعودة إلى ما يشعر أنه قد يكسر حاجز عزلته، فالفقير المعدم قد ينعزل عن المجتمع ليس بالضرورة لرغبته في ذلك ولكن لعدم قدرته على تحمل أي نفقات زائدة، وتأتي لحظة ما بمعاناة كبيرة يمكنه الحصول على ما يجعله يكسر هذا الحاجز ولو لمرة واحدة، قد ينجح؛ ولكن إذا فشل بعد كل هذه المعاناة ليس أمامه إلا الموت أو التمرد بعد أن فقد الأمل في الحصول على المعطف.
الموت الاحتجاجي
إن حالات الانتحار المتزايدة والكثيفة والعلنية في مصر تتجاوز مجرد إنهاء الحياة بقرار، ولكنها أقرب أن تكون إعلانا على استحالة الحصول على معطف يمكنه به مجابهة العالم أو الخروج من العزلة، ففي الكثير من الأحيان يتجاوز تأثير العجز قيمة الحياة نفسها، ويصبح خيار الموت الاحتجاجي متمثلا في الانتحار المعلن الحل الوحيد أمام قطاع من المجتمع لم يعد قادرا على الاستمرار، بالتأكيد التمرد المقاوم أكثر تأثيرا من الانتحار المعلن؛ ولكنها بالتأكيد دليل على عدم قدرة قطاع واسع من المصريين عبور حواجز العزل الاجتماعي والاقتصادي، ودليل تجاوز الضغط على الشعب قدرة الكثيرين على التحمل، وعندما يزيد الضغط تنكسر أضعف النقاط وتحدث شروخ غير مرئية متعددة تنبئ باقتراب الانهيار مع أول ضربة عنيفة مركزة.
على مدى عقود متتابعة كان صراع قطاعات واسعة من المصريين الحصول على معطف أكاكي تحديدا الذي سينقذهم من الاستبعاد الاجتماعي ويجعلهم قادرين على الاندماج مع المجتمع والخروج من الفقر المدقع والإذلال الدائم، إلا أن الوضع الحالي الشرس والجامح ضد الشعب المصري ربما تأكد للكثيرين من استحالة حصولهم على ذلك المعطف، فلم يعد أمامهم إلا كما فعل أكاكي.
معطف السياسي
إلا أن أكاكي قبل موته وحتى بعد موته الافتراضي أثار الفزع في كل من تسبب في فقدانه معطفه وكل من لم يساعده في استرجاعه، فهم مشاركون كما يرى في موته، وربما تكون هذه هي المرحلة المقبلة من كل شبيه لأكاكي في مصر، فالموت الاحتجاجي ليس كافيا لعقاب من سرقوا معطفك ودمروا حلمك في استعادته.
يختلف هذا المعطف عن معطف السياسي المستسلم المتعطش للسلطة، فهو في الغالب لا يعاني من استبعاد حقيقي ظالم، ولكنه يعاني من استبعاده من حلمه وطموحه، ولا غبار على ذلك قطعا، إلا أن معطف العودة إلى مجال العمل السياسي ليس مثل معطف أكاكي، بل يكون في الغالب معطفا ذا اناقة فائقة وعطور فرنسية ورابطات عنق إيطالية، وهناك فارق آخر بين معطف أكاكي ومعطف السياسي المستسلم، فمعطف أكاكي عانى من أجل الحصول عليه ولم يتحمل معاناة فقده، أما معطف السياسي المتعطش فيحصل عليه دائما بسهولة دون معاناة وإذا فقده يصنع غيره… لا مشكلة، ولم أعلم سياسيا مستسلما متعطشا قرر الانتحار احتجاجا على عدم عودته للسلطة، فليس فيهم ولن يكون منهم أكاكي.