رئيس المكتب السياسي في المجلس الثوري المصري
الموت الذي لم يعد مهيبا
أغسطس 4, 2022
رئيس المكتب السياسي في المجلس الثوري المصري
المصريون ومعطف “غوغول”
أغسطس 4, 2022

المريلة الكحلي

رئيس المكتب السياسي في المجلس الثوري المصري

رئيس المكتب السياسي في المجلس الثوري المصري

المريلة الكحلي

كان محمد منير في الثمانينيات عندما بدأ وعي جيلي في التشكل يغني للمريلة الكحلي، ولم يكن يعلم (أو أي منا في الحقيقة) أنه في يوم ما ونحن لا زلنا نخطو على الأرض أنها ستكون مادة لإثارة قضية كبرى. قضية المريلة تتجاوز بكثير فكرة قطعة قماش ملونة، فحادثة محاولة أب الحصول على مريلة مدرسية لابنته حادثة كارثية مثيرة للشجون، وتذكرنا بالثمانينات ومريلة محمد منير.

لا أستطيع ذكر الثمانينيات دون التعبير عن الألم الكبير الذي يزيد عن معاناة جيلي في العشر سنوات الأخيرة، فكثير منا عانى من تغييرات متتابعة في نمط الحياة بشكل جذري خلال تلك الأربعين سنة. فقد غيرت التكنولوجيا أنماط الحياة بشكل درامي، حتى أن هذا الجيل في هذه السن المتوسطة يمكنه الحديث عن أشياء كثيرة لا يعلمها من يصغره بعشر سنوات، ثم أشياء أكثر ممن يصغره بعشرين عاما. هذا في الحقيقة مؤلم للغاية، إلا أن الأكثر إيلاما أن تنهار كل ما تملكه من ذكريات في أمور متعددة، فمن نصر أكتوبر “العظيم” إلى ذكريات الشوارع والطرقات التي ذهبت مع التغيير العنيف القبيح الذي حدث بها، إلى حتى محمد منير ورفاقه الذين انهاروا كما انهار كل شيء في مصر.

لا أدري لماذا تأثرت بشكل كبير بحادثة المريلة، ربما تعاطفا مع والدها الذي حاولت أن أستمع إلى محادثته لنفسه ولابنته قبل أن يقوم بمحاولته التي لم تنجح، وحاولت أيضا أن أستمع لمن أمسكوا به، وربما كل هذا غير مهم، فهي حوارات مشوشة لم تنتج شيئا، ولكن ما يبدو مهما أن هناك عدة أمور ينبغي أن تناقش حول تلك الحادثة، أو بمعنى أدق عدة أسئلة تحتاج إلى إجابات ربما لا يمكننا الإجابة عليها الآن، ولكن حتما لا بد أن نجيب في وقت ما.

هل ما فعله الأب يعتبر سرقة؟ ويقودنا هذا السؤال لسؤال تأسيسي: ما هي السرقة؟ وهل تعريف السرقة واحد في كل أنظمة السلطة؟

هل حقا الزي المدرسي الموحد وسيلة لإخفاء التمايز الطبقي؟ أم هو مظهر للرغبة الشديدة للدولة الحديثة للتنميط على كل المستويات، وولع السلطة بالنظام في كل شيء حتى لو لم يكن ذا معنى؟

لِمَ تحاول الدولة، والتي بذاتها ولطبيعة تكوينها هي أحد منتجي التمايز الطبقي الحاد، إخفاء التمايز الطبقي في المدارس؟ ولماذا المدارس فقط وليس الشوارع والبيوت؟

هل توحيد الزي في الجيش والسجن والمستشفيات والمدارس وغيرها من المؤسسات في الأنظمة الحديثة مجرد صدفة؟ أم أن الأمر أكثر عمقا من ذلك؟

هل منظومة التعليم في مصر تطور فعلا الفرد وتجعله متميزا؟ وإذا لم يكن كذلك – وهو فعلا أصبح مهزلة – فهل لا زالت منظومة التعليم إحدى طرق الصعود في السلم الاجتماعي كي يدمر المصريون أنفسهم في سبيل الدفع بأبنائهم إلى مصانع إنتاج الجهل في مصر بكل هذا الحماس؟

لا يمكننا بالتأكيد الإجابة على كل تلك الأسئلة الآن، فكل منها يحتاج لمناقشات متعمقة حتى وإن بدت أسئلة مباشرة لا تستحق عناء الرد، ولكن كما أؤمن فهناك لحظات وأحداث في حياتنا وأيضا حياة الشعوب تحتاج للإجابة على أسئلة ربما أكثر إرباكا من تلك.

فالسرقة مثلا هي أخذ المال خفية واستتارا تماما كما فعل رجل المريلة وزوجته، والمصطلح يشير إلى أنه مال الغير بالتأكيد، فلن يأخذ أحد ماله خفية. دعونا نفترض أن الرجل استطاع طباعة مئة جنية سليمة – تماما كما يفعل البنك المركزي – وأعطاها لصاحب المريلة، هل ستكون في تلك الحالة سرقة؟ ماذا سيكون توصيفك للحدث لو كان صاحب مصنع الملابس يحتكر المنتج؟ ماذا لو كان صاحب المصنع طبع نقودا أيضا – كالبنك المركزي تماما – واشترى بها قماش الملابس؟ أي من هؤلاء لص؟

هناك مشكلة حقيقية في نمط السلطة وهياكل الاقتصاد والنقد وطريقة حياة أهل المدن تجعل الحسم بمصطلحات مبنية على أسس اجتماعية وسياسية مختلفة هو حسم واه جدا ويحتاج لكثير من البحث، والإجابات الحاسمة تمثل جريمة ربما أكثر ضررا من جريمة سرقة الزي المدرسي. والحقيقة، لا أستطيع الجزم بتجريم ما فعل الأب، وفي نفس الوقت لا أستطيع استباحة الأمر، فالموضوع يحتاج ربما لقدر من الجهد، ولا يمكن حصار الفرد داخل نمط ما وفي نفس الوقت تجبره على تحمل كافة كوارث هذا النمط ثم تحاسبه بقواعد أنماط أخرى.

إن الدولة – كما أرى ويرى البعض – لا يمكنها البقاء دون أن تحافظ على المجتمع الطبقي، ولا يمكنها الاستمرار دون وجود نسبة ما من المجتمع تعيش على الهامش في كل شيء؛ هامش البطالة… هامش الفقر… هامش الغنى الفاحش… فلا بد أن يكون الطلب على العمل أكثر من العرض حتى يبقي هامش البطالة الذي يحافظ على التوازن لصالح رأس المال، ولذلك فهناك دائما عشرات الآلاف، وربما مئات الآلاف، من هذا الرجل البائس الذي لا يستطيع شراء زي المدرسة لابنته. فهذا حتمي، ولذلك فعدم قدرة هذا القطاع في أغلبه على أفضل الفروض ليس بسبب كسله أو فساده، أو غير ذلك من الأسباب التي تطلق من الأنظمة المجرمة لتصدير المشكلة للمجتمع، ولكنه بسبب بنية النظام الرأسمالي نفسه، فلماذا إذن يتحمل هذا القطاع العبء وحده؟

المدرسة واحدة من مظاهر سيطرة الدولة “المؤسسات” على الجماهير، ولكنها ليست كالسجن والجيش. فالسجن والجيش أقصى درجات السيطرة والتحكم، ولهذا فوحدة الزي بهما جزء أصيل من تحقيق تلك السيطرة والضبط المطلق، وهو أحد الغايات الكبرى للنظم، السيطرة الكاملة… المعرفة الكاملة عن كل شيء… لم تصل المدارس بعد لتلك الدرجة من السيطرة الكاملة، فالأولاد سيذهبون لبيوتهم مساء كل يوم، وإذا أتى اليوم الذي يوحد فيه الزي المدرسي وتتحمل الدولة تكلفته، فنحن أمام تحول المدارس لتصبح كالسجون والجيوش.

إن كبح جماح تغول الدولة ليس مطلبا نخبويا ولا سياسيا، ولكنه في الأصل طلب إنساني حتى لا يتحول البشر لعبيد كما في نموذج مصر وجيرانها، ورجل المريلة ومنتحرو المترو والملايين غيرهم ليسوا إلا نتاج الدولة حتى لو لم تكن فاسدة، وبالتالي فجزء من فساد الدولة وإجرامها هو عدم اعترافها بمسؤوليتها الجنائية والأخلاقية عما حدث، فلا معنى أن تسيطر على كل شيء وتجرد البشر من حقوقهم وحتى مهاراتهم القديمة، بحجة السيادة والسلطة، ثم تحمله كل النتائج الكارثية عن ذلك.

ولهذا، فالتفكير في إجابات جديدة عن الأسئلة المطروحة ربما يأتي لنا بشيء جديد، أو يجعلنا على الأقل نعيد التفكير في مسلمات ليست بالضرورة صحيحة.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *