“وطنية الأوغاد”.. مصر في الواقع الموازي

عمرو عادل رئيس المكتب السياسي في المجلس الثوري المصري
غضب المهمشين بمصر.. جوكر 2020
أغسطس 4, 2022
رئيس المكتب السياسي في المجلس الثوري المصري
الموت الذي لم يعد مهيبا
أغسطس 4, 2022

“وطنية الأوغاد”.. مصر في الواقع الموازي

رئيس المكتب السياسي في المجلس الثوري المصري

رئيس المكتب السياسي في المجلس الثوري المصري

“وطنية الأوغاد”.. مصر في الواقع الموازي

لم تعد صناعة واقع مواز كامل صعبة المنال، فقد تطورت التكنولوجيا وأصبحت قادرة على إنتاج واقع كامل، إلا أنها وحدها غير قادرة على تحويل هذا الواقع الموازي إلى وهم في العقول إلا بعمل مضن على مدى عشرات، وربما مئات السنين، لإنتاج عقول لا يمكنها أن ترى الفارق بين الواقع الحقيقي والواقع الموازي، بل أحيانا ترفض هذه العقول المنتجة الحقيقة وتتمسك بالواقع الموازي.

ولكي نكون منصفين؛ فربما يدرك العقل أن الواقع الذي يتم الترويج له زائف، ولكنه يرى أن التماهي بهذا الزيف أكثر سلامة له لإحساسه بالعجز والقهر، وهذا أحد أخطر نتائج الاستبداد.

فنحن أمام متوالية، إن صح التعبير. أولا تدمير العقل ليصبح مؤهلا لاستقبال الواقع الموازي كأنه حقيقي، ثم إنتاج الزيف وترويجه، ويقوم الاستبداد بحل أزمة من يزالون يدركون الفارق؛ فيقهرهم بعنف وبقسوة ليستسلم قطاع آخر تحت وطأته، ويتبقى القليل ممن يقاومون للنهاية.

هذا النموذج يمكننا تطبيقه على مصر، بلادنا التي لم تسلم من القهر، وشعبنا الذي سحق تحت جنازير دبابات الاستبداد العسكري عبر تاريخه. وربما من الجدير بالملاحظة أن قطاعا واسعا لا زال بعد كل هذا القهر قادرا على أن يدرك الحقائق، ولكنه لا يمتلك من الأدوات حتى الآن ما تمكنه من التعبير عن نفسه.

والأقسام الثلاثة السابق ذكرها (المؤمنون بالواقع الزائف، المستسلمون قهرا له، المقاومون) نراهم في كل حالات الجدال المصرية على كل فعل في مصر، سواء كان حقيقيا أم زائفا. ولا يوجد أعلى من جدال الاختيار في هذه الأيام، وهو تجسيد لحالة متردية من الإنكار للحقائق واستمتاع بالوهم، ويبقى سيف الوطنية الصارم على رقاب كل من يحاول الفرار من جنون الاختيار.

ما حدث في كمين البرث في 8 تموز/ يوليو 2017، بل كل ما يحدث في سيناء، يعتريه غموض شديد نتيجة للتعتيم الإعلامي منذ انقلاب 2013. فتكرار الحوادث بشكل يكاد يكون متطابقا، يدفعنا لطرح أسئلة كثيرة ليس لها إجابات قاطعة حتى الآن، وإذا حاولنا الإجابة فسنجد أنفسنا بعيدين تماما عن الاختيار الذي يدفع إليه النظام الشعب المصري. وقبل أن نطرح تلك الأسئلة يفترض بنا أن نثبت بعض الحقائق، وإذا لم نتفق عليها فلا داعي لإكمال قراءة هذا المقال.

1- لا يوجد تمرد مسلح، كالحادث في سيناء على سبيل المثال، يستطيع البقاء أو الاستمرار دون دعم شعبي أو على الأقل تعاطف شعبي واسع، فالخطر الأكبر على أي حركات مقاومة مسلحة هو الشعب، فإذا كان السكان في أغلبهم يرفضون هذا التمرد، فلا أمل لهم بنجاح.

2- يتعرض أهل سيناء لحملات تشويه وكراهية وقتل غير طبيعية، لا يمكن تفسيرها إلا لرغبة في تفريغ الأرض من سكانها، أو على الأقل كسر أي قوى مجتمعية على أرض سيناء تمهيدا لأمر ما لا يعلمه أحد، وكل ما يطرح هي استنتاجات لا دلائل عليها، ولكن ربما الأقرب أن كل ما يحدث في سيناء سيكون لصالح الصهاينة، خاصة بعدما حدث في تيران وصنافير، وحتى الآن لا يدرك أحد كيف سيكون الشكل النهائي لمأساة سيناء ومصر المنتظرة.

3- التمردات المسلحة لا تُقابل بكل هذه القوات المتمركزة، وتوزيع القوات في نقاط منفصلة متباعدة ضعيفة الترابط والاتصال وقليلة الدفاعات، ومع الضعف التدريبي الكبير في كل مستويات الجيش المصري يبقى توزيع القوات بهذا الشكل هو محرقة ومقتلة بدون شك.

4- الحقائق لا توثق بالأعمال الدرامية، وصناعة البطل والرمز حرفة إعلامية، وهي مهمة بالتأكيد لكل مجتمع، وليس بالضرورة أن يكون البطل بطلا حقيقيا، وليس بالضرورة أن من يظهر كمجرم أن يكون كذلك.

5- لقد عشنا جميعا ما حدث في كرم القواديس والبرث، ورأينا كل ما حدث مُصورا، وظهرت نتائج “المشاكل” الكبرى في مستوى التدريب والترابط بين القوات ومستودى الدعم وسرعته. وهذه مشاكل حقيقية داخل الجيش المصري؛ فالقضية في المعارك ليست قدرات الأسلحة والمعدات فقط، بل قدرتك على استخدامها بأقصى كفاءة ممكنة وفي الوقت المناسب، أما إذا كنت تعتمد على القوة النيرانية فقط فقد تحولت إلى قاتل، وهذا فعلا ما يحدث في سيناء من عمليات انتقامية من وحدات الجيش بعد أي عملية مسلحة ضدها.

والآن هناك عدة أسئلة حول نموذج الواقع الموازي؟

في الواقع الموازي، والمؤمنون به، لا يجيب أحد، ويستخدم التهييج الوطني كحائط صد أمام أي محاولة لطرح الأسئلة أو الفهم. أما الحقيقة التي يراها من يحللون ما حدث أمام أعينهم، أن قيادات الجيش يرون أن ثمن من يموتون أقل بكثير من استثمارات حقيقية لحمايتهم. ما المشكلة في أن تموت مجموعة من العساكر المستعبدين أصلا بالتجنيد الإجباري؛ وكذلك بعض الضباط في كمين يمكن أن نشعل به حالة الجنون الوطنية، ونزيد بها العداء للعدو المتخيل الوهمي في واقعنا الموازي، أيضا سنوفر ملايين الدولارات التي كانت ستنفق على إنشاء منظومة الدعم والرصد للكمائن، التي ستكون قادرة على حمايتهم؟

لماذا يفر الجنود والضباط في كرم القواديس ويبادون في البرث؟

في الواقع الموازي لا يجيب أحد أيضا، وتسحب مشاهد التوابيت مع الموسيقى الحزينة والأعلام وحرس الشرف وطلقات المدافع كل الأسئلة وتلقيها على مذبح أورجازم الوطنية، ويصبح التشكيك في “الأبطال” عملا انتحاريا، ومن يقول إنهم فروا أو أبيدوا، معلنا الحقيقة التي رآها الجميع، وأن هذا له دلالات سيئة للغاية على مستوى التدريب وعلى ضعف الترابط الإنساني بين الأفراد بالوحدات، فيهاجمونك بمشاهد من أعمال درامية تنبئك بعكس الحقيقة، ومنتجة في الواقع الموازي عن المقاومة الهائلة “للأبطال” أو العلاقات العظيمة بين أفراد الوحدات العسكرية. الأكثر إبهارا أن الكثير من الشعب المصري عانى من الإهانة والإذلال في أثناء فترة تجنيده، ولكن إيمانه بالواقع الموازي أعلى من تجربته الشخصية.

هل صناعة الأبطال وترميزهم جريمة؟

بالتأكيد لا، فهي حرفة كل أجهزة الأمن والإعلام، وهي حرفة النظام وحده، فلا يقبل النظام المستبد أن يصنع أحد غيره بطلا، وإلا يكون مصيره القتل أو السجن بلا رحمة. ولكن من هو البطل؟ ومن هو العدو؟ فلا بطل بغير عدو يحاربه، ولا بطل بغير معركة.

وليس بالضرورة أن يمجد كل الأبطال، بل على العكس؛ غالب الأبطال لا يعلمهم أحد، ولكن الأنظمة تختار أحدهم لتظهر بطولته أو تصنع منه بطلا. ويعتمد ذلك على تعريفها للبطل والعدو، ففي الأربعينيات تحول الشهيد أحمد عبد العزيز لبطل، وكذلك الرفاعي والشاذلي لاحقا، عندما كان العدو هم الصهاينة، فهم أبطال حقيقيون أمام عدو حقيقي، أما عندما تغير العدو وأصبح “عدوا وهميا” في عالم مواز؛ فقد أصبح من المنطقي إنتاج بطل وهمي في هذا العالم الموازي.

لم يعد النظام يجد بطلا حقيقيا لصناعته أو لإظهار البطولة، فاضطر لإنتاج كامل لرمز يحتمي به. وهذا البطل الجديد عليه علامات استفهام كثيرة، ولم يجد غير الإنتاج الضخم والموسيقى المؤثرة والمشاهد المرسومة بعناية، لإظهار البطل بشكل ملائكي في تناقضات صارخة مع كل ما نراه في العالم الحقيقي، ولكن المجد الآن للعالم الموازي.

فالنظام المصري له خبرات عظيمة في تحويل الهزائم المُذلة إلى انتصارات ثم تمجيد أبطالها. فحرب 1956 أنتج منها الإعلام بطلا ورمزا، وحرب 1967 الكارثية بكل آثارها رقص أعضاء مجلس النواب احتفالا ببقاء القائد، وجريمة كامب ديفيد وخيانات أكتوبر 1973 أنتجت بطل الحرب والسلام، ومأساة معارك الطيران في أكتوبر أنتجت صاحب الصربة الجوية؛ فلا مشكلة في أن يستخدم النظام المصري الأسلوب نفسه في تحويل فضائح إبادة الكمائن في سيناء إلى ملحمة وبطولات.

لن تتوقف الأنظمة عن صناعة الوهم، ولن تتوقف عن دفع الجماهير للأورجازم الوطني، ولن يتوقف بناء عالم موازٍ من الأبطال الوهميين، ولن تتوقف التناقضات الصارخة في ذهن الغارقين في هذا العالم الموازي. فقط علينا دائما التمسك بالعالم الحقيقي والإصرار على الحياة فيه، مهما كان حجم ضغط الوهم والزيف، فالبقاء بعيدا عنه ليس أمرا سهلا وسط هذا الحصار الكبير.

ولنتذكر أن أهل سيناء أهلنا، وأن التمرد في سيناء حقيقي، وأن الجيش مؤسسة مجرمة في حق شعب مصر، وأن صناعة الأبطال حرفة يجيدها الإعلام والنظم المستبدة، وأن الجيش غير مُدرب ويدفع مَن فيه للمحرقة، وأن قياداته أقرب للشياطين وليسوا أبدا ملائكة. لقد قالوا قديما الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد، وهي كذلك وستظل كذلك.

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *