مصر ليست دولة العسكر
.
عملت الدكتاتوريات على مر التاريخ على خلق حالة من الفوبيا ضد التغير؛ كوسيلة للحفاظ على سلطتها وضمان الهيمنة على شعوبها. ومن أهم الآليات التي تستعملها الديكتاتوريات لتوطيد سلطتها؛ هي السرد السياسي الذي يكرس في وجدان الشعوب ارتباط بقاء الدولة ببقاء شخص أو مؤسسة أو منظومة أو عائلة ما، فيصبح أي هجوم على أي مؤسسة أو منظومة أو حاكم هو هجوم على الدولة نفسها.
والتاريخ مليء بألامثلة للديكتاتوريات التي استعملت هذا الخلط السياسي لتوطيد حكمها، ملكية كانت أو جمهورية، من الملك لويس الرابع عشر في فرنسا إلى المملكة العربية السعودية، ومن ألمانيا النازية إلى جمهورية تشيلي تحت حكم بينوشيه.
ونرى هذا الخلط السياسي دارجا اليوم في الساحة السياسية المصرية، من حيث الترويج بأن أي هجوم على مؤسسات الدولة، سواء المؤسسة العسكرية (المسؤولة عن مجزرة رابعة وغيرها من جرائم الانقلاب) أو غيرها من مؤسسات الدولة المصرية، يقدم وكأنه هجوم على الدولة نفسها!
وما يزيد من هذا الخلط هو أن بعض مناهضي الانقلاب بانتقادهم لمن يهاجم المؤسسات بشكل شمولي؛ يصب حتى ولو عن غير قصد في سرد منظومة الانقلاب أن أي هجوم على المؤسسة العسكرية يمثل هجوما على الدولة المصرية، وبذلك يساعد على تثبيته في ذهون الجمهور (حتى من كان منهم منتقدا للمنظومة الانقلابية)، لذلك علينا كمصريين جميعا أن نطعن ونهدم هذا المفهوم الخاطئ، وهذا الخلط الذي يخدم النخبة الحاكمة وليس الشعب.
ومع أنه من المسلمات السياسية أن المؤسسات تمثل أركان الدولة، إلا أنه في حالة الدولة المصرية فإن المؤسسة العسكرية الحالية قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أنها تمثل خطرا رئيسيا على مصر كدولة وكمجتمع. ومن أجل أن نستطيع مجابهة هذا الخطر، ولكي يستطيع الشعب الحشد ضد هذا الخلط السياسي الوهمي، علينا رفض قبول الأكذوبة التي درجت منذ عقود بأننا إن ناهضنا العسكر نهدد بقاء الدولة ونهدد مستقبل وجود مصر.
إن المنظومة الانقلابية تخشى من فقدان سيطرتها على مفاصل الدولة، ولذلك تعمل على ترسيخ هيمنتها وحماية مصالحها. ومن هذا المنطلق يقدم “النظام” الانقلابي نفسه، بكل مؤسساته، على أنه تجسيد للدولة، ولذا يعتبر أي انتقاد له أو للمؤسسات التي ترسخه في الحكم، سواء المؤسسة العسكرية أو الأمنية أو القضائية؛ وكأن هذا الانتقاد يعتبر تقويضا للدولة المصرية.
وفي حقيقة الأمر، فإن المنظومة العسكرية، أو المؤسسة العسكرية بشكل أدق، هي نفسها التي عبر سياساتها في الفاشلة في العقود الماضية، والتي تتسارع منذ الانقلاب تعمل على تقويض الدولة المصرية من خلال عدة محاور:
أولا: تقويض المقدرة العسكرية للدفاع عن الحدود، وتحويل جيش مصر إلى شركة أمنية مستأجرة.
ثانيا: تقويض البنية الاقتصادية عبر بناء هياكل اقتصادية يتغلغل فيها الفساد، وتؤدي إلى استيلاء المؤسسة العسكرية على أكثر من 40 في المئة من اقتصاد الدولة والانفراد بها لنفسها.
ثالثا: توجيه الإعلام بتحويله إلى بوق دعاية منعدم المصداقية.
رابعا: تقويض مصداقية وعمل المؤسسة القضائية عبر استعمال قوانين الطوارئ والمحاكمات العسكرية، وعبر استعمال قضاة فسدة كأداة للقمع الأمني والقتل السياسي الممنهج.
خامسا: تقويض البنية المجتمعية عبر زرع الفتنة والطائفية في المجتمع المصري.
لذلك، من الواضح تماما أن هذه المؤسسة، أي المؤسسة العسكرية، وهي إحدى أهم مؤسسات الدولة والمجتمع، لا تخدم بأي شكل من الأشكال مصالح المجتمع المصري، بل على العكس تماما تعمل جاهدة للإضرار به، ولا تخدم مصالح مصر الوطنية، بل على العكس من ذلك، تخدم أعداء الوطن. فأصبحت المؤسسة، ودون حرج، الحليف الحميم للكيان الصهيوني، وهي المؤسسة التي تصدت للإرادة الشعبية ولثورة يناير، فانقلبت على الرئيس الشرعي واختطفته. هذا الرئيس الذي مثّل انتخابه ولأول مرة إرادة الشعب. ومن هذا المنطلق لدى الشعب المصري الحق الكامل في مناهضة هذه المؤسسة وإنهاء هيمنتها وفسادها، من أجل إنقاذ مصر.
وعلى الشعب المصري أن يدرك أنه من غير المقبول مطلقا أن تصبح مصر بتاريخها وإمكانيات مستقبلها؛ هي ونخبة عسكرية فاسدة سواء. فمن المستحيل أن نسمح لمثل هذا السرطان المتفشي في مؤسساتنا أن يستمر في تقويض الدولة نفسها. بل ومن المستحيل أن نسمح أن تستمر هذه النخبة التي أضعفت مصر من خلال هيكلة اقتصادية فاسدة أثرت نخبة صغيرة وعملت على إضاعة فرص التنمية للوطن لعقود، ومن ثم أفقرت أغلبية الشعب. لذلك لا يمكن لعاقل أن يقبل أن يكون الهجوم على هذه المؤسسة هو هجوم على الدولة.
إن الهجوم على منظومة العسكر أو على المؤسسة العسكرية لا يمثل هجوما على الدولة المصرية. إن مصر أكبر بكثير من نخبة فاسدة فشلت في القيام بأبسط واجباتها ولم تخدم الدولة أو الأمة. أما عصابة الانقلاب فهي الآن تروج لهذا الخلط وبشدة؛ لأنهم يريدون أن يرسموا سردا يربطون فيه بين أنفسهم وبين فكرة أكبر، تتمثل في فكرة الدولة والوطن، من أجل الحفاظ على سلطتهم والتحكم في الشعب ومنع أي نوع من الانتقاد أو المعارضة، حيث يصبح أي انتقاد أو معارضة أو هجوم عليهم أو على أي من مؤسساتهم، وخاصة المؤسسة العسكرية، هو هجوم على الوطن.
وهذا السرد ليس بجديد، أتذكرون كيف أنه كان إذا هاجم الواحد منا السادات أو مبارك اتهم بأنه هاجم مصر ذاتها؟ وها نحن نرى نفس الفكرة تعيد نفسها، فإذا هاجمنا المؤسسة العسكرية اُتهمنا بأننا نقوض الدولة ونهاجمها، بينما نحن في واقع الأمر نعمل على إنقاذها.
إن هدفنا الواضح في المجلس الثوري المصري هو أن ننقذ مصر، وأن يعيد الشعب بناء دولة بمؤسساتها لتمثل حقا الشعب المصري بكامله، تخدمه وتحمي حقوقه وتمثل هويته وإرادته، والتي تعمل لتطوير وخدمة أجيال المستقبل وتبني اقتصاد يستعمل ثروات مصر وطاقاتها البشرية والطبيعية لإثراء شعب مصر كله، لتحل محل دولة فاسدة بمؤسساتها الفاسدة التي لا تمثل ولا تخدم الا نخبة صغيرة. لقد آن الأوان للشعب أن يتحدى هذه الأكذوبة، وأن يستعيد مؤسسات الدولة ويسترد سيادته على الدولة المصرية.