كل عام في مثل هذه الأيام تتصاعد المشاجرات، فنحن في مصر – وغيرها بالتأكيد – لنا مواسم عراك، منها 23 تموز/ يوليو؛ يوم الانقلاب أو الثورة… سمه ما شئت، فلم تعد الأسماء يمكنها التعبير بدقة عن حقيقة الحدث، حتى مع وجود تعريفات واضحة.. إلا أن الجدل لا زال مستمرا ويبدو أنه لن يتوقف.
التفاصيل الموثقة مهمة بالتأكيد كي تصل إلى نتيجة كلية واضحة، ولكن بعد الوصول لتلك النتيجة الكلية تكون العودة للتفاصيل مرة أخرى (ما لم تكن جديدة وموثقة) عبثا، وتعطي انطباعا بالاستمتاع بحالة الشجار، وكأنها رغبة لتفريغ الغضب والتمرد في أرض فضاء. هل يمكن للبعض اعتبار ذلك جيدا؟ ربما.. حيث يقلل من الضغط العام على كل منا. فكل يقاوم بطريقته، وكل حجر يقذف على العدو سيكون في وقت ما جزءا من لوحة الانتصار الكبير.
ودون الخوض في التفاصيل الموثقة، وبناء على طبيعة الدولة وخاصة الاستبدادية، يمكننا القول إن مصر، وربما المنطقة العربية بأكملها، دخلت نتيجة التفاعلات الممتدة، وخاصة في المئتي عام الأخيرة، في صراع حاد (ربما يكون صفريا) بين من يمتلكون السلطة، أيا كان تصنيفهم، وبين الشعب. ففي مصر كان الاستعمار الاجتماعي (بتعبير الفذ جمال حمدان) هو الخط الرابط بين كل أنظمة الحكم عبر تاريخها القديم والحديث، ولم تغير أنظمة الحكم المتتابعة، بداية من الفرعونية إلى الجمهورية.. هذا الخط غير المرئي للكثيرين. فمصر قبل تموز/ يوليو 52 كما هي بعد يوليو 52؛ نفس الخط الفاصل بين المستعمرين الاجتماعيين من جهة والشعب من جهة أخرى. لا يمكن إنكار محاولة توزيع الثروة بعد 52، ولكن مع ذلك التوزيع في الثروة الذي يتحفظ على طريقته البعض؛ زاد فصل السلطة، وأصبحت الثروة حصرية للضباط. فتقريبا محصلة السلطة والثروة لا تتغير في مصر، ربما يمتلك الشعب قدرا من أدوات السلطة على حساب الفقر المدقع قبل 52 (والسلطة هنا بمعناها الواسع)، أو يستعيد قدر من الثروة على حساب الاحتكار الكامل للسلطة وانتزاع كل ما يملكه الشعب منها.
ومن أهم الأدوات التي يمتلكها الشعب في مجال السلطة؛ التجمعات المجتمعية القوية التي يكون لها امتداد طولي أو عرضي داخل طبقات المجتمع، وهذه التجمعات يمكن أن تكون بأشكال متعددة، بداية من القبائل وحتى الجماعات الأيديولوجية، مرورا بالأحزاب والنقابات وغيرها. وفي مقابل توزيع جزء من الثروة بعد تموز/ يوليو 52؛ كان الثمن تدمير كل ما يمكن أن يكون تجمعا شعبيا منظما بأية طريقة في المجتمع قادر على مشاركة الضباط في السلطة، وما لا يمكن تدميره فيمكن احتلاله والسيطرة عليه، وما لا يمكن السيطرة عليه فيجب سحقه تماما.
يمكننا القول إن الاستعمار الاجتماعي يستلزم التعامل مع القوى المجتمعية بثلاثة طرق: تفتيت القوى المجتمعية: أو السيطرة عليها من الرأس: أو الحل الأخير السحق التام لها دون رحمة. وبشيء من التحفظ يمكن القول إن وسائل المجتمع لاستعادة السلطة والقضاء على هذا الاستعمار الاجتماعي ربما تنحصر بين هذه الوسائل الثلاث؛ التفتيت، أو السيطرة من الرأس، أو سحق المستعمرين ونظامهم.
وعند النظر إلى إجراءات دولة يوليو، فكل النقابات تمت محاولات مضنية للسيطرة عليها، وانتهت فكرة الأحزاب السياسية تماما، كما حوربت كافة التجمعات البشرية وحقرت فكرة التجمع البشري القبلي.. كل هذه الأمور تمت بحجج مختلفة، إلا أن الرابط العام بين كل هذه الإجراءات كان الرغبة في تفتيت أي قوى مجتمعية على حساب تغول مؤسسات الدولة في السيطرة على كل شيء، وحتى الثروة؛ سيطرت الدولة عليها… فقط قامت بتوزيعها بشكل ما تحت رعايتها وسيطرتها، وكان كل ذلك في يد طبقة الاستعمار الاجتماعي الجديد… الضباط.
إذن، فالأزمة ليست في دولة يوليو؛ فهي أعمق من ذلك بكثير، وربما انتهت فعليا دولة يوليو بكارثة 67، وموت جمال عبد الناصر والتحول الكبير المتتابع الذي حدث في السبعينيات وما تلاها. وتنبغي الإشارة إلى أن الثروة كانت تحت سيطرة طبقة الاستعمار الاجتماعي حتى بعد تموز/ يوليو 52، فقط تمت صناعة مسارات لها للأسفل في فترة عبد الناصر. فقد أدت هذه الطبيعة إلى سهولة تحويل مساراتها وانتزاعها من الشعب مرة أخرى، وكانت المحصلة النهائية لدولة يوليو انتزاع هامش الحرية الموجود قبل تموز/ يوليو 52، أيضا عودة مسارات الثروة إلى وضعها القديم قبل تموز/ يوليو. ويبدو أن ربط بداية حالة الاستعمار الاجتماعي بعبد الناصر هو نتيجة لانقلاب 2013، أكثر من كونه كان البادئ باستعمار مصر الاجتماعي.
إن أخطر ما حدث في يوليو 52 هو إعلان الحرب على القوى والتجمعات الشعبية، وقد تكرر ذلك ثلاث مرات بشكل كبير في مصر: المرة الأولى أيام محمد علي؛ بتدميره القوى المجتمعية التي بطبيعتها تخصم من سيطرة الدولة، والمرة الثانية كانت فترة عبد الناصر، والآن في المحاولة الثالثة بعد انقلاب تموز/ يوليو 2013 هي الأكثر شراسة وقبحا، فقد تم تمهيد واسع للأرض في المحاولتين السابقتين، ويمكننا إضافة مرة رابعة بعد الاحتلال البريطاني لمصر، فما أراه أن الاستعمار المباشر والاستعمار الاجتماعي خاصة في الدولة الحديثة (الدولة الوحش) لا يختلفان كثيرا.
لم تستطع المحاولات الثلاث القضاء على القوى المجتمعية، بالرغم من تحقيقها نجاحات كبيرة وخاصة محمد على، وكان المجتمع قادرا كل مرة على استعادة نفسه، إلا أن تأثير الضربات لا يمكن أن يزال كلية؛ بل يبقى أثر كبير بعد كل ضربة، تتحدد قوة تأثيرها حسب مدى قدرة القوى المجتمعية على الكمون واستعادة نفسها بعد انتهاء الموجة القوية، وهذا بالتأكيد أحد وسائل حماية المجتمع وتقليل التأثير السلبي للضربات العنيفة، إلا أن له سقفا لا يمكنه تجاوزه. وفي الغالب ومع تعدد الضربات وقوتها، تأتي لحظة ما لا تستطيع القوى الكامنة العودة مرة أخرى لأسباب عدة. هناك أسئلة بالتأكيد حول مسارات العودة وكيفيتها، وهل يمكن أن تكون جزءا من الحل الجذري، وبالتأكيد تحتاج لإجابات ليس لها متسع الآن.
ولهذا؛ فالحفاظ على أي تنظيم اجتماعي يمكن اعتباره أحد محاور القوة التي لا يمكن التخلي عنها، واختفاء أي تنظيم هو انتصار للنظام، فكل زيادة لنا هي نقصان من نظام الاستعمار الاجتماعي، والعكس صحيح أيضا. ولا يمكن إنكار حالة الضيق من حل تنظيمات الألتراس لنفسها بالرغم من الانتقادات الواسعة التي قد يتلقاها التنظيم من البعض، وبالرغم من محدودية حجمه واهتماماته وأولوياته، إلا أن وجوده بالتأكيد أفضل من غيابه، بل علينا أن يكون بناء التنظيمات الشعبية أحد أهداف حرب التحرير من الاستعمار الاجتماعي، والذي تحول مع العسكر إلى احتلال بالوكالة.
فالأزمة هو الاستعمار الاجتماعي، والحل هو أحد الوسائل الثلاث إما التفكيك أو السيطرة من أعلى أو السحق، والثانية فشلت فشلا ذريعا في عدة محاولات متتابعة منها محاولات ما بعد كانون الثاني/ يناير 2011، عندما حاول البعض السيطرة على الرؤوس، والثالثة عليها خلافات كثيرة، فيكون الحل المنطقي في تفكيك منظومة الاستعمار الاجتماعي.. ونكرر ليس فقط تفكيك دولة يوليو، وهذا سيتم ببناء تنظيمات مجتمعية أكثر وأقوى ولها روح ثورية، أيضا الحفاظ على ما تبقى من تنظيمات سيأتي وقت ما وتساعد في انتشال المجتمع من المستنقع الذي سقط فيه حتى لو لم تكن ثورية بالقدر الكافي.