عودة إلى دور الإعلام والسينما والدراما في تشكيل وعي الجماهير، هذا الدور المستخدم حاليًا من قبل نظام سلطوي في مصر لتمرير جرائمه على الأذهان في صور البطولة، وكنت قد أشرت في تدوينة سابقة إلى بعض مما حيك لسيناء في الإعلام والدراما، قبيل أن يتم تصفيتها وأهلها على مرأى ومسمع من أهل الوادي، الذين قام بعضهم وبلا عجب بتبرير جريمة تسريب سيناء الأخير، الذي عرض جزءًا من المسكوت عنه في هذه البقعة من الأراضي المصرية، بعد مشاهدة تصفية على أيدي جنود من الجيش المصري لمجموعة من شباب سيناء خارج إطار أي عرف أو قانون.
وبمتابعة خط الدراما المصرية مؤخرًا لاحظت أنه يمكنك أن تستخرج رواية النظام الأمني المصري في كل ما يحدث، وفي كل شخص، وتفسير كل ظاهرة خارجية أو داخلية، وكأن ضابطًا في الشؤون المعنوية أو الأمن الوطني كتب “اسكريبت” وقام بتوزيعه على منتجي ومؤلفي الأعمال الدرامية والسينمائية المصرية.
لم أكن من تعساء الحظ حقيقة الذين قاموا بمشاهدة هذه المنتجات العسكرية الفاخرة فور نزولها للأسواق، والتي أراها تلحق بـ “كعك الجيش” و “مانكير الجيش”، لنرى دراما الجيش المصري، فخر إنتاج الشؤون المعنوية، ولكن بعد مشاهدة أحد هذه المنتجات “الركيكة” على المستوى الفني ناهيك عن الرسائل التي تحملها، قررت تتبع هذه المسألة لاستخرج رؤية نظام الجنرال “بلحة” وأتباعه لما يحدث في العالم وتفسيرهم لكل ما يحدث في مصر تحديدًا من خلال “اسكريبت” موحد على جميع المسلسلات والأفلام.
البلد تتعرض لمؤامرة كونية “صهيو أمريكية” رغم أن مأكل المصريين ومشربهم وحتى الملابس الداخلية مصنوعة من هذا “الخارج” الذي يتآمر عليهم، في تجاهل تام لأعلى درجات التنسيق الأمني مع الكيان الصهيوني، وفي محاولة سمجة لإنكار تماهي النظام الحالي مع الإدارات الأمريكية، وسيره في خطها المرسوم.
كما عليك أن تكتشف أن أجهزة الاستخبارات والأمن المصرية هي الأقوى والأكثر كفاءة حول العالم، -هذا داخل شاشاتهم التليفزيونية فقط- دون أن تستطيع منع أو إيقاف أيًا من العمليات الإرهابية التي تضرب البلاد طوال السنوات الأخيرة، ولكنه نوع قديم من الشيفونية الزائفة، ها قد تعودنا عليه، فأسطورة “محسن بيه ممتاز” – أسطورة مخابراتية درامية مصرية قديمة- تطاردنا أينما حللنا.
وبالطبع الحكومة المصرية ملتزمة بأعلى معايير حقوق الإنسان في أشد “السجون السرية”، ولا يمكن أن تصدق أعداد قتلى الإهمال الطبي والتعذيب داخل السجون ومقرات الاحتجاز في الواقع، ولا تعتمد على تقارير منظمات حقوق الإنسان المحلية والعالمية، فقط صدق دراما الجيش الركيكة.
الاتهام المعلب للشباب حاضر في مثل هذه المسلسلات العسكرية، فالشباب مغيب كعادة وصفهم، والسبب “الإنترنت”، وأي إعلام يغرد خارج سربهم، كما ستجد حالة عداء مرضي للمعلومة والتكنولوجيا بشكل عام، مرورًا بالإعلام الغربي والهجوم عليه باعتباره مشاركًا في التآمر الكوني.
حتى أنهم ترجموا رؤيتهم للثورات الشبابية على الشاشة “كمؤامرة خارجية” لتقسيم البلاد، ويتهمون هذا الشباب بأنه لم يثر على الديكتاتورية والفساد، بل تحت تأثير “الإنترنت” وحروب الأجيال المتوهمة من قبل الجنرالات، والتي لا زال يتشدق بها كبيرهم. هؤلاء الشباب مغرر بهم – الأسطورة السلطوية الأبدية- يقعون فريسة لشعارات براقة.
فهم يرون أن كل من يُعارض من هؤلاء الشباب، وينتقد أوضاع حقوق الإنسان ممول خارجيًا، فالتدهور الاقتصادي في نظرهم مؤامرة خارجية، سد النهضة مؤامرة خارجية، الجماعات الجهادية التي يحاربونها ويبررون بحربها حالة القمع والديكتاتورية “صناعة غربية” من حلفائهم في الغرب -يالسخف-، ومصر وأجهزتها الأمنية هي الوحيدة التي تتصدى لهم.
كما هناك محاولة لخلق رفض شعبي لمفهوم “حقوق الإنسان” بصفة أنه صناعة خارجية أيضًا للتدخل في شؤون مصر، وكذلك محاولة للربط بين مجموعات حقوق الإنسان و “الإرهاب”، كون بعض هذه المنظمات تدافع عن المعتقلين على ذمة قضايا أمنية، وتطالب بحقهم ومعاملتهم الإنسانية داخل أماكن الاحتجاز.
حربهم ضد “الإرهاب” و “قوى الشر” يصورنها على أعلى معايير حقوق الإنسان، حتى أنني شاهدت ضابطًا في مسلسل “القيصر” قتل “متهمًا” في مداهمة أمنية، ثم قام يلاعب ابنه الرضيع ويقبله، وكأن صور ضحايا سيناء للقصف الأمني العشوائي لا تدلل على الحال الحقيقي لهذه الحرب على الأرض، ولكن ادعاء أن هذه الصور مفبركة ضمن حروب الجيل الرابع والخامس والسادس والسابع أسهل بكثير لنفيها والتشكيك في مصداقيتها لدى أتباع الجنرال.
الفشل في سيناء عندهم ليس فشلًا عسكريًا وأمنيًا واستخباراتيًا وإنما هي المؤامرة الخارجية اللعينة بالإضافة إلى “قوى الشر” الذين لا يعرفهم أحد سوى الجنرال “بلحة” وأتباعه، ناهيك عن وصلات من “التطبيل” لأجهزة الأمن الذين هم في الواقع “أبطال هذه الأعمال الدرامية” وليس الممثلين.
هذه روايات متكاملة من التدليس الممنهج للواقع تخالطها جملة سخيفة في بداية هذه المسلسلات، تتحدث عن الأحداث الواردة فيها التي لا علاقة لها بالواقع، وهي حقيقة عندما نتحدث بالفعل عن واقع عالم الجنرال بلحة وأتباعه، ولكنها وثيقة الصلة بواقع المصريين الحقيقي الذين يحاولون تزييفه بشتى الطرق، ومن هنا يمكنك ببساطة استقراء ما يدور في أذهان هؤلاء الذين يرددون جملًا كـ “مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق” فهي إحدى منتجات الدراما العسكرية التي تتحدث عن مؤامر لجر مصر لحرب أهلية وقعت فيها بالفعل على المستوى المجتمعي، وإن كانت بلا سلاح في القلب، فإن الأطراف لا تخلو منه.