وما زالنا نعاني مما أصابنا في مصر منذ 3 تموز/ يوليو 2013، نعاني مما أصابنا من تقسيم للشعب المصري، تقسيم سنعيش به وللأسف لفترة طويلة، وجرح لن يلتئم حتى يشعر الشعب بأكمله بضرورة تجرع الدواء المر، ألا وهو الحساب الذي سيشمل ولا شك العفو والعقاب.
إلا أن ذلك الدواء لم يتم تحديده بعد، وهذا لا يتم إلا في المرحلة الأخيرة من مراحل العلاج، مراحل بدايتها تشخيص المرض وتعريف طريق العلاج وتحديد نوع الدواء.
وبالرغم من أننا قد تعرضنا لتشخيص المرض أكثر من مرة، إلا أن البعض ما زال مُصرّا على أن يعيدنا لنقطة البداية مرة أخرى، فيعيد السؤال: أليس من الأنسب أن نتحد على أي شيء ويتراجع الإخوان للخلف ونزيح السيسي من الطريق؟ أليس ذلك هو الحل الأمثل؟ أليس ذلك هو طريق التفكير المنطقي العملي البراجماتي؟
السؤال مغلوط، ولا أعتقد أن هدفه هو الإجابة عليه بالمنطق؛ لأن الجميع يعلم أن السيسي ليس هو المشكلة، وأن إزاحته ليست الحل، فلا يغيب عن أحد أن إزاحة السيسي فقط ليست إلا تمكين الانقلاب من أهدافه؛ لأن الانقلاب ليس السيسي وأهدافه لم تكن إزاحة مرسي أو الإسلاميين، فالسيسي ليس إلا مُنفذا، والخطة ليست موجهة فقط للإسلاميين وحسب، بل الهدف هو سحق الشعوب في اختيار طريقها، ولذا نجد التحالف الداعم له، والذي لن يتخلى عنه هم أصحاب المصلحة الأولى في وأد كل الثورات.
من يتصور أنه قادر على استرجاع الحق المسلوب وبناء ديمقراطية حقيقية في ظل هذه المنظومة، لم يدرك بعد معنى التقسيم الذي فرضه الانقلاب.
لقد سلك الانقلاب طريق تقسيم الشعب المصري إلى شعبين، وانتشرت مقولة “إحنا شعب وأنتم شعب”، وترك للشعب المخدوع رسم خطوط التقسيم على هواهم، فرسم البعض خطا للتقسيم يفصل بين الإخوان والآخرين، ورسم البعض الآخر ذلك الخط جغرافيا كما نرى مأساة سيناء والنوبة، وآخرون رسموه سياسيا بين إسلاميين وعلمانيين، ولم يسلم الأمر من رسم الخط على الحدود الطائفية بكل ألوانها.
أعتقد أنه قد آن الأوان ليدرك كل من ساهم في رسم تلك الخطوط أنهم ضحية الوهم الذي صنعوه بأنفسهم، وأن النظام لا يعرف إلا خطا واحدا رسمه هو، وهو الخط الذي يمثل الفاصل الحقيقي، فاصل يفصله عن كل الشعب المصري بكل توجهاته السياسية والدينية والجغرافية، فالانقلاب وحاشيته هو الشعب المتحكم المغتصب، ونحن الشعب فاقد الحقوق الذي يجري خلف الأوهام.
إن ما يروج له البعض من أن الدواء يمكن أن يؤدي للعلاج دون تشخيص صحيح للمرض؛ هو طريق لتجرع السم وليس الدواء، وهو طريق لاستفحال المرض وليس العلاج، ذلك لأن ما يحدث في مصر هو تخريب متعمد، وهو جريمة كاملة مع سبق الاصرار والترصد تديرها المنظومة المتحكمة في الداخل والخارج، منظومة تمثل تحالف أصحاب المصالح المحليين والإقليميين والدوليين، ولن ينصلح حال البلاد إلا بالقضاء على الذيول المحلية لتلك المنظومة من الدولة العميقة وأصحاب رؤوس الأموال الطفيليين التي تتغذى مصالحهم على دماء الشعب.
إن محاولة البعض لاستنساخ تجارب سابقة، وتصوير أن ما حدث ممكن أن يعاد، هو وهم آخر. فيوم 25 يناير 2011 لا يمكن أن يتكرر بذات الصورة، وحركة تمرد المخابراتية لا يمكن أن تبعث من جديد، وجبهة الإنقاذ التي سلمت مصر للانقلاب لا تستطيع أن تستردها منه، والجبهة الوطنية التي حاولت التغير يوما في عصر مبارك ولم تنجح لا يمكن أن تكون قادرة على التغير اليوم.
إن من يفكر بهذا الأسلوب يصنع وهما حقيقيا لا يختلف عمن يدعو للمصالحة المجتمعية الآن ونحن نعيش مجتمع الظلم، إن ترتيب الأمور المنطقية تجعل من تحقيق العدالة وإقرار الحق هما البداية المنطقية التي يتلوها المصالحة المجتمعية. هذا هو المنطق الحقيقي والوحيد الذي لن يتحقق في ظل هذه المنظومة.
ولذا فقد اخترنا نحن الثورة الشاملة التي تتحقق بتسليم الحكم للشعب، وإخراج العسكر من قصر الرئاسة إلى الأبد، وهذا لن يتحقق إلا بعودة الشرعية التي هي صمام الأمان الوحيد لتحقيق الحلم وإبطال ذلك التدمير اليومي المتعمد، بإبطال توقيع مغتصب السلطة وتطهير الدولة من الفساد الراسخ.
كلما تعرضنا لحقيقة الأمر، وضرورة السير في الطريق لآخره، تطل علينا النخب المختارة ذاتيا بدعواهم، أننا لا نتبع المنطق العقلي في التفكير ونسير وراء العاطفة، وإننا لسنا براجماتيين، وكأن المنطق ملك خاص لمجموعة مختارة، بل إنني أصبحت على يقين بأن مصطلح “البراجماتية” استُحدث ليُضل أصحاب القضايا العادلة، وأصبح كل باحث عن طريق ثالث يستخدمه ليُصمت كل من يعارضه.
إن محاولات البعض البحث عن الطريق الثالث، طريق وسط بين اللصوص والشعب أصحاب الحقوق، هو الوهم الحق وهو البعد عن العقلانية. إن تصورهم أن إنقاذ مصر في التخلص من السيسي واستبداله بوجه مقنع بعد أن سقط قناع السيسي وعصابته، هو تصور ساذج حتى وإن كان هو الأقرب للحدوث؛ لأنه الأسهل والأكثر قبولا لدى أصحاب المصلحة الأولى في دمار الشرق العربي.
إن ذلك لن يمنع من يدركون الحقيقة من الاستمرار على طريق الحق؛ حتى تتحقق الثورة الشاملة، كان ذلك في ظل السيسي أو في ظل الدوبلير “البديل ذو القناع”.
إن أصحاب الطريق الثالث ليسوا إلا طابورا خامسا، حتى وإن صدقت نواياهم، فالطريق إلى الجحيم مهد بالنوايا الحسنة.