ست سنوات مرت منذ محى “محمد بوعزيزي” عار المهانة، بأن أشعل النار في نفسه فأشعل الثورة على أرض العرب.. ثورة امتدت من تونس إلى مصر وسوريا وليبيا، فاليمن والبحرين، ثورة اشتعلت تلقائيا أو افتراضيا، إلا أن الحقيقة التي لا شك فيها أن الشعب العربي انتفض من أجل الكرامة، من أجل كرامة “محمد بوعزيزي” و”خالد سعيد” و”سيد بلال”، وملايين آخريين قد لا نعرفهم.
ومع انطلاق الشرارة الأولى على أرض “سيدي بوزيد”، تحولت الشعوب العربية من الاحتجاج السلبي الذي أحرق جسد “بوعزيزي” النحيل، إلى الاحتجاج الإيجابي مخترقا معاقل الفساد والقهر، رافضا الاستسلام لأنظمة بوليسية قمعية، فثارت الشعوب واتخذت كل منها طريق وفقا لظروفها المحلية وتوازنات القوى على أرضها.
لقد كانت وما زالت ثورة الربيع العربي ثورة واحدة، لا ثورات كما يدعي البعض؛ لأنها أظهرت حقيقة الوحدة العربية، وحدة لم تتمثل في الماضي، ولكنها وحدة واقع مرير مزرٍ خلفته سنوات من القهر والاستكانة والهزيمة، هزيمة النفس في الداخل، وهزيمة من العدو المشترك الخارجي والداخلي. فكانت ثورة الخبز والكرامة، ثورة العدالة والحرية.
وبالطبع لم تستسلم الأنظمه الفاسدة، بل ألقت بكل ثقلها فيما بين صفوف الثورة وصفوف الثورة المضادة. ولا تناقض، فالأجهزة الانتهازية تسعى لعدم إضاعة الوقت، وما أسهل من أن يلقي النظام ببعض عناصره تداعب عواطف الجماهير وتوجههم فتضللهم، وهي في ذات الوقت تسحقهم، فذلك هو الطريق الذي طالما احترفته تلك الأنظمة لاستهلاك الوقت حتى يعيد النظام ترتيب أوراقه وينقض على الثورة إن لم يستطع استيعابها.
وتباينت السيناريوهات، فما بين وئام ظاهري بتونس، وسحق بالبحرين، وحرب ضروس بسوريا وليبيا واليمن، وقفت الثورة المصرية تتأرجح بين مفاهيم مغلوطة وتصفية حسابات الماضي من ناحية، وقوى استبداد وفساد محلية وإقليمية ومنظومة عالمية من ناحية أخرى، فلن يقبل أي منهم بأن تنتصر الثورة؛ لأن في انتصارها نهاية لعرشه.
فبعد زمن من الصراع الفكري داخل التيار الإسلامي، بدأ بنبذ الديمقراطية ونبذ فكرة الثورة، وانتهى بإدراك أن الديمقراطية وتبادل السلطة هما الطريق الوحيد لتحقيق الإرادة، وأن الثورة هي الطريق الوحيد للتقدم والخلاص من الفساد. وقف على الجانب الآخر ما عرف سابقا باسم القوى الليبرالية واليسارية يتشدقون بالديمقراطية، ثم ينقضّوا عليها في أول لحظة غزل من العسكر، ليطيحوا بالتجربة الوليدة وينقلبوا عليها؛ لأنها جاءت بما لا تشتهي سفنهم. والأمر ليس إلا تصفية حسابات الماضي، ولن يدفع ثمنها إلا الوطن والشعب.
لقد كانت كلمة السر للربيع العربي هي الإطاحة بإرادة الشعوب، وعدم تمكينهم من الحكم ما لم تأت الريح بما يشتهون، ولتسقط كل القيم والمعاني الجميلة التي طالما تشدق بها الغرب وتوابعهم مدعي الليبرالية والحرية.
وتكاتفت قوى الشر لتسقط الثورة، ونجحوا في إفشال التجربة واستولوا على الحكم، إلا انهم لم ينجحوا في إسقاط الثورة، بل أشعلوها وصححوا طريقها، وحققوا أهم عوامل النجاح ألا وهي الفرز، فقد حقق الانقلاب في مصر الفرز والغربلة اللازمين لإنجاح أي ثورة، حيث وضحت من هي قوى الثورة الحقيقية، ومن هي القوى الانتهازية التي اختلطت بكل الصفوف.
وبعد ست سنوات من انطلاق ثورة الربيع العربي، يسعى البعض لقولبة الثورة في صور إيدولوجية، متناسيين أن أخطر مراحل الثورات هي مرحلة القولبة، وأن عظمة الربيع العربي في تلقائيته التي لا ينقصها إلا بعض التصحيح، وأن ثورته ستنجح حين يسير الجميع على شعار الشرارة الأولى للثورة، من العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، وإسقاط الانقلاب واسترداد شرعيته، ثم يترك الشعب ليقولب ثورته ديمقراطيا عقب نجاحها، فيحافظ عليها ويرعاها ولا ينزلق مرة ثانية في مصيدة الانقلابات.
لقد سعى الغرب وأتباعه لتقويض إرادة الشعوب عبر مئات السنين، إلا أن الشعوب تعود دائما وتنتفض، ولا يستثنى من ذلك الشعوب العربية التي لم تنتصربعد، وقد لا تنتصر عن قريب. ولكنها بلا شك أصبحت لاعبا أساسيا في معركة المصير الذي غُيبت عنه. فقد فجّرت سنوات الربيع العربي الطاقة الكامنة، والإرادة المسلوبة، ولن تقبل الشعوب أن تُسلب إرادتها لحاكم فاسد أو مستبد، ولن تقبل أن تسلم ثورتها لأي من الأيدولوجيات أو التنظيمات، ولا للنخب، ظاهرة كانت أو كامنة.