تتعرض كافة الشعوب والحضارات على مر التاريخ لحالات من الاحتلال والاستبداد وهما صورة واحدة بأوجه مختلفة لاستغلال البشر، وكلا الحالتين “الاحتلال والاستبداد” هما محاولة لاستعباد قطاع ما من البشر لصالح قطاع آخر يستغل فارق القوة الكبير بكل أشكاله لفرض سيطرته.
وأدوات القوة التي يستخدمها الطرف الأقوى في محاولة فرض سيطرته متنوعة؛ ولكنها تنحصر في محورين هامين هما السيطرة على المجتمع باستخدام أدوات القوة المادية والمحور الآخر هو السيطرة على العقل، فالاحتلال يستخدم القوة المسلحة الواضحة عن طريق مؤسسات السلطة المادية التي ينتجها داخل المجتمع الذي يسيطر عليه مثل مؤسسات الأمن والدفاع، والغريب أن الكثير من المحتلين يصنعون جيوشا بالكثير من الدول التي يحتلونها؛ ولكنه في الغالب وفي معظم التجارب أثبتت أنها جيوش منفصلة عن مجتمعاتها وتميل أكثر لصالح الاحتلال القديم وكأنه حنين إلي الأصل.
وفي حالة مقاومة الاحتلال هناك جانب لا يزال أخلاقيا يصعب إخفاءه وقليلا ما تحاول المقاومة الدفاع عن موقفها المعادي للاحتلال بصورته المباشرة؛ لأن العقل الجمعي للمجتمع يصعب إخضاعه لقبول الاحتلال المباشر؛ ربما يحاول المحتل تقليل جدوى المقاومة لكنه أبدا لم يستطع تطبيع الاحتلال وضبط العقل الجمعي على قبوله كأمر طبيعي. ومن الطبيعي أن تنشأ وتبدأ المقاومة في ظروف بالغة السوء بالنسبة لفارق القوة بين الطرفين؛ ففي الغالب لا يمكن احتلال مجتمع ما إلا عندما يصل إلى درجة كبيرة من الضعف تجعل من السهل عملية احتلاله، والمؤكد أيضا أن أي قوى احتلال تحاول أن تزيد من ضعف المجتمع حتى يبتعد عن فكرة المقاومة، لذا فإن المقاومة دائما ما تبدأ في ظروف ميدانية كارثية وفارق هائل في كافة محاور القوة ولا يمكن اعتبار ذلك معوقا للبدء بالمقاومة أو وصفها بالحماقة؛ حيث أن ذلك يجعلنا نصف كل أبطال التاريخ في كل الثقافات والشعوب على أنهم مجموعة من الحمقى.
وهناك خطورة كبيرة في التخلي عن منهج المقاومة في الصراعات الكبرى بسبب اختلال ميزان القوى، وللأسف تظهر بين الحين والآخر أفكار وأدبيات تحاول تسفيه مفهوم المقاومة بكل أشكالها واستخدام نفس أسلوب الاحتلال في تشويه المصطلحات لصالح زيادة القدرة على السيطرة؛ فتحاول بعض الأفكار حصر المقاومة في فكرة المقاومة المسلحة -رغم أنها أحد أدوات الصراع- ولكنها ليست الوحيدة بالتأكيد ويعتمد اختيار القوى المقاومة لها علي ظروف تتعلق بالكثير من العوامل تتغير بتغيير الزمان والمكان، وتلك المحاولة لخلط الأوراق هدفها انتزاع فكرة المقاومة من الصراع بشكل عام وهذا كما أراه هو أحد أدوات الاحتلال ورفيقه الاستبداد في إحكام السيطرة.
وهناك أشكال متعددة للمقاومة يحاول العدو بشقيه “الاستبداد وراعيه الاحتلال” أن يعاود نشاطه القديم المستمر في تشويه المقاومة بمصطلحات جديدة؛ ينفرد الاستبداد ببعضها كقلب نظام الحكم ومحاولة هدم الدولة وكأن الدولة أصبحت هم، ويشارك الاحتلال في بعضها كمصطلح الإرهاب وغيره. وكما أن مصطلح التمرد والعصيان يحمل في ذاته قدرا من الفعل الخاطئ؛ فكذلك المصطلحات الحديثة المذكورة بالأعلى، ولكنها تبقى دائما ليست صحيحة على إطلاقها واحتكار الاستبداد والاحتلال لها وخلط الأمور يجعلها أدوات لتشويه العمل المقاوم الحقيقي الذي لن يسلم من التشويه ما دام هناك احتلال واستبداد.
لذلك فعلى من يرى أننا في حالة تستوجب المقاومة فعليه أن يبتعد عن دعاة احتقار المقاومة في إطار انعدام تكافؤ القوى؛ وعليه العودة لكل تجارب التاريخ التي تخبرنا أن هذا هو الوضع الطبيعي ويمكن تغييره فقط بالمقاومة ولا شيء غيرها وعليه أيضا إدراك أن المقاومة أكبر بكثير من تلك المساحة الضيقة التي يحاولون حشرنا بها، فالكل قادر على المقاومة كل بما يملك. وبمجموعة من المقالات المتتابعة؛ سنحاول التعرف على بعض تجارب المقاومة بعدة أشكال عبر التاريخ في أماكن مختلفة حتى ندرك أنها دائما ما تبدأ وسط انعدام كامل لتوازن القوى، إلا أن بقاءها وتقليل فارق القوى مرهون فقط باستمرارها.