ما يشغلني في موضوع الحكم ببراءة آية حجازي، مدير جمعية بلادي لمساعدة أطفال الشوارع، بعد ثلاث سنوات من الحبس الاحتياطي، هو: ماذا قال القاضي الذي أصدر حكم براءتها، هي وزوجها وآخرون، لأولاده وزوجته، بعد عودته إلى المنزل؟ القاضي هو القاضي، والمحكمة هي المحكمة، جنايات القاهرة، وفي كل مرة كانت تمثل أمامه آية حجازي والمتهمون بالقضية، يصدر قراراً بتمديد حبسهم، على ذمة القضية العبثية الملفقة التي تتهمهم فيها السلطات بالآتي “عصابة منظمة؛ لاستقطاب أطفال الشوارع، والهاربين من سوء معاملة ذويهم”. وأنهم احتجزوا الأطفال داخل كيان مخالف للقانون، ومن دون ترخيص، وأطلقوا عليه “جمعية بلادي”، في إحدى شقق دائرة قسم عابدين في القاهرة، وذلك بناء على التحقيقات، الأكثر عبثيةً وتلفيقاً، التي ذهبت إلى “استغلال المتهمين ضعف الأطفال وحاجاتهم، وصغر سنهم، بإجبارهم على الاشتراك في تظاهراتٍ تخدم توجهات سياسية خاصة، مقابل أموال يتحصل عليها المتهمون”.
ضع نفسك مكان القاضي، العائد إلى بيته، بعد إصدار حكم البراءة، المفاجئ، وهو ينظر في عيني زوجته وأبنائه، لدى السؤال التقليدي “عملت إيه في قضية النهارده” فماذا ستقول؟ هل ستقول إنك، فجأة، في أعقاب عودة الجنرال عبد الفتاح السيسي من واشنطن، ووقوفه على طرف مكتب رئيس مجلس إدارة الكون، دونالد ترامب، بعد مؤتمر صحافي، سئل فيه السيسي عن الظلم الواقع على آية حجازي، اكتشفت أنها بريئة، هي وكل من معها في القضية؟ ثلاث سنوات من التنكيل والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية، في سجون رديئة، أشبه بالقبور.. ثلاث سنوات من المداولات والتأجيلات وتمديد الحبس الاحتياطي، لم تكن كافيةً لكي يستقرّ في يقين المحكمة أن الأبرياء هم فعلاً أبرياء، حتى حجّ السيسي إلى البيت الأبيض، وعاد مرضياً عنه، فاستقرت البراءة في اليقين؟ حسناً، ما رأي سيادتكم في أن النيابة لم تطعن على الحكم، وفي أن الشرطة أعلنت جهوزيتها لإطلاق سراح المتهمين، فوراً، بعد وصول قرار المحكمة؟ من حقنا، بل من واجبنا، أن نفرح جميعاً بحصول أي بريء على حريته المسلوبة قمعاً وقهراً وإجراماً وبطشاً سياسياً، مهما كانت وسائل استرداد هذه الحرية وظروفه وملابساته، غير أنه، في الناحية الأخرى، وفي مقابل السعادة بالحرية، لا نستطيع أن نمنع الأسى والحزن على العدل المهزوم، المكروه، المهان في بلادنا.. لا نقدر على مقاومة ذلك الامتزاج القهري بين الضحكة والدمعة، ونحن نتابع أهوال ما يلاقيه عشرات الآلاف من آية حجازي، لا يذكرهم الإعلام الأميركي، ولا يصل نبأهم إلى دونالد ترامب. من هؤلاء الباحث والصحافي المحترم، هشام جعفر، الذي بلغت مأساته مع الحبس الاحتياطي أن هناك من يمارس الابتزاز على زوجته، كي تدفع ثمن حريته، عفواً صحياً، مائة وعشرين ألف جنيه.
من هؤلاء القاضي الجليل المستشار محمود الخضيري الذي حصل على حكمٍ قضائي باتّ بالإفراج عنه، بعد انقضاء محكوميته، في قضية انتقام سياسي كريه، وقبل أن يبلغ بيته في الإسكندرية، صدرت الأوامر بإعادة اعتقاله، ورجوعه إلى الزنزانة. من هؤلاء مئات، بل آلاف الحالات، ممن يعرفهم الناس، أو ليس لهم حظ من الشهرة والحيثية الاجتماعية والسياسية، يتم افتراسهم في الزنازين، حتى الموت، الصبي الصغير كريم مدحت، ليس آخرهم، والشاب مهند إيهاب ليس أولهم، كلهم ليس لهم ترامب، ولا يحملون جنسية أميركية، ولا يملكون رفاهية التنازل عن جنسيتهم المصرية، الوحيدة، لقاء حريتهم. تذكّر هؤلاء، في مناسبة سعيدة، مثل استرداد آية حجازي حريتها، المستحقة، ليس جريمة، وليس نوعاً من الانكماش الأيديولوجي، أو التشكيك في جدارة المحرّرين بالحرية، كما أنه ليس تمدّداً على بساط الاستقطاب السياسي أو الاجتماعي.. بل أزعم أنه يدور في ذهن حجازي والمخلى سبيلهم معها، أيضاً. ما جرى مع آية حجازي نسخة مكرّرة من سيناريو محمد سلطان، نجل القيادي الإخواني الدكتور صلاح سلطان، قبل عامين، حين أنقذته جنسيته الأميركية من الهلاك في سجون الانقلاب.. وكما قلت وقتها: ليس من العدل أن يلوم أحدٌ محمد سلطان على قراره بالرحيل من عذاب المقبرة، وهو على قيد الحياة، ذلك أنهم، باختصار شديد، أعلنوها صريحة: كونك مصرياً، فهذا يعني موتك، لو كنت معارضاً أو معترضاً على شروط الحياة داخل تراب المقبرة المقدس. وتبقى المسافة بين “آية حجازي الأميركية” و”آية حجازي المصرية”، هي ذاتها المسافة بين الدولة والمقبرة، وبين المجتمع الإنساني وتجمعات الوحوش البرية في مناطق البحيرات والمستنقعات العطنة، هي الفرق بين الإنسان وباقي الكائنات.