عندما وَقف الزعيم ياسر عرفات هاتفاً “إنه سلام الشجعان” ومن بعدها دخل الى رام الله مُتقمصاً هيئة الفاتح المُنتصر لم يكن يُدرك أنه ذاهب الى المعتقل بقدميه. هذا المعتقل الذي وقع صك قُبوله ولم يخرج منه إلا ليلقى حتفهُ مسموماً ولم يعود إليه ثانية إلا ليوارى جسده الثرى.
لم يَجُل بخلده أن ما أطلق عليه حينها “سلام الشجعان” ما كان إلا وثيقة تنازل بدون مقابل توالى خلفها السقوط في سلسلة من التنازلات وفقدان الدعم ليس فقط على الصعيد الفلسطيني ولكن أيضا على كل الأصعدة عربي وإسلامي بل وأفريقي وغيرها من الدول التي كانت الداعمة للقضية الفلسطينية وهذا لا ينفى المسؤولية عن السادات عراب كامب ديفيد الأول.
ونحن كمصريين وكعرب دفعنا وما زلنا ندفع ثمن الخطأ او الخطيئة في الخلط بين تعريف السلام والاستسلام وتداعياتيهما وكذا التغاضي عن الفهم الحقيقي لأسباب الصراع في منطقة الشرق الأوسط والتمسك بالمبادئ و وضع الاستراتيجيات الصحيحة للتعامل معها.
ولا يخفى على أحد أن ما يعانيه الأقصى اليوم ما هو إلا نتاجاً مباشراً لتلك الأخطاء. ولأننا لا نقرأ التاريخ وإن قرأنا لا نفهم كيف نستفيد من دروسه في التخطيط للاستراتيجيات التى تعظم مكاسبنا فإنه يتكرر وقوعنا في نفس الأخطاء وإن إختلفت صورها ومواضعها بل وأحياناً نتبناها. وبمحاولة الاستفادة من دروس المعلم السياسي الأول، ألا وهو التاريخ ، نحاول إسقاط هذا على ما يموج به الطور الحالي من الثورة المصرية.
حيث تصاعدت في الآونة الأخيرة بعض النبرات التي تطالب المجموعات الثورية بمختلف توجهاتها بمراجعة التعامل مع المشهد الثوري المصري او كما تدعى تلك الأفكار بالتعامل الواقعي مع الازمة المصرية!.
تلك النبرات والتي لم ترتفع بعد الى مستوى الأصوات تحاول ان ترتكز على قراءة التطورات التي يموج بها الإقليم وتأثير وتأثر المجمع الدولي بتلك التطورات.
تتبنى تلك الآراء ما تسميه إعادة ترتيب أوراق البيت الثوري أو بإعادة التموضع الثوري وأحيانا تلجأ الى إعادة تعريف المُعرف بما يتناسب مع ما يحقق أهداف هذا التوجه.
وربما تصل تلك الآراء الى التماهي مع قبول فكرة إختزال المشهد الثوري وأهدافه في التخلص من قائد الإنقلاب عبد الفتاح السيسي والجوقة الإنقلابية الصغيرة المحيطة به متجاهلةً في ذلك الفساد المستشري في كل مؤسسات الدولة وعلى رأسها المؤسسة العسكرية التي تسيطر على كل مقاليد الحكم فى البلاد ليس فقط سياسياً وإقتصاديا فحسب بل وإعلامياً وثقافياً.
هذا الحكم العسكري والذي يكاد يصل الى وصفه بالملكية العسكرية والذى يعامل الشعب كأنه مجموعة من العبيد او قطيع من الحيوانات يُقتل منه من يشذ عن الطريق الذي رُسم له. والغريب إن بعض ممن يتبنوا تلك الآراء قد ساهموا بصورة او أخرى فى الوصول الى ما نحن فيه الآن بتأييدهم لما يسمى سهرة 30 يونيو ،خالعين عليها رداء الثورية، حينما صفتها بأنها موجة من موجات الثورة مُتناسين ان 30 يونيو ما هي في الواقع إلا كارثة خطط لها العسكر و نفذتها أدوته الإعلامية التى وجدت مناخاً خِصباً من الأزمات الإقتصادية و الضحالة الثقافية التى شكلتها دولة العسكر فى مصر على مدى عقود.
وبنظرة مجردة نجد إنه في كل العلوم والمعارف فإن تعريف المشكلة هو أُولى خطوات حلها وهذا يستلزم طرح مجموعة من التساؤلات التي سنقوم إن شاء الله من خلال عدة مقالات إستقرائها ومحاولة تقديم إجابات عليها والتي قد تساعد في الوصول الى رؤية استراتيجية متكاملة لأولويات إدارة هذا الطور الهام من المرحلة الثورية. ان طرح تلك التساؤلات ليس من باب التشكيك في النوايا السياسية لتلك الرؤى، والتي لا يعلمها إلا الله، بل هو مجرد تركيز الضوء على ما يجب ان يكون عليه الإختيار الاستراتيجي لتلك المرحلة التي آلت اليها الثورة المصرية وهل هذا الاختيار لابد ان يكون ثوريا ام أن صِبغته بصبغة سياسية هو أحد الاحتمالات ؟ وما هو اللون السياسي الذي لابد ان يُصبغ به إن قٌدر له هذا؟ …
في هذا المقال سنطرح التساؤل الأول حول ما هي حقيقة الصراع في مصر الآن والذي هو بطبيعة الحال ممتد الى الإقليم؟
وللوصول الى الإجابة على هذا التساؤل نَسترجع كيف أصبحت مصر مملكة عسكرية. فبعدما ورث العسكر حكم مصر ، بعد انقلاب يوليو 52 ، من مِلكية الأسرة العلوية تحول قادة العسكر من سكن الاشلاق والصحاري الى الإرث المجاني من قصور فيلات وممتلكات ابناء أُسرة محمد على، ولن نتحدث عن أحقية أبناء محمد على في هذه الممتلكات فهذا خارج موضوعنا.
تحولت مصر بأيادي عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر، وشمس بدران، وأذنابهم الى عزبة كل نظارها عساكر قاموا بتخدير الشعب لسنوات وتفننوا في تدمير الجيش والإقتصاد في حرب اليمن ومنازعات أخرى في افريقيا وغيرها بدواعي تصدير الثورة هذا فضلا عن الصراع الداخلي بينهم على السلطة.
وجاءت الطامة العسكرية الكبرى في 5 يونيو 67 حيث أٌستشهد الآلاف من أبناء الشعب المقهور بسبب تهور من يدعون أنهم قادة أو لإنعدم خبرتهم العسكرية أو ربما لتعمدهم الهزيمة كما يدعي بعض المحللين. و في الواقع أياً كانت الاسباب فإن من دفع ثمن تلك الهزائم من أرواح أبنائه واقواتهم هو ذلك الشعب المصري وهو أيضا الذي دفع ثمن المعدات العسكرية التي دُمرت ومنها ما هو شاهداً عليهم حتى اليوم في المتاحف الاسرائيلية بسبب سطحية وجهل هؤلاء الذين نصبوا أنفسهم قادة واسياداً لهذا الشعب.
وبعد الانهيار الكامل للقوات المسلحة فضلاً عن معنويات الجبهة الداخلية ظهرت دموع التماسيح مرة اخرى تستجدى رجال الشعب لإنقاذ الوطن وإسترداد الكرامة فذهب إخوةَ من قُتلوا في 67 لحرب الاستنزاف ثم اكتوبر 73 لمحو هزيمة نظام العسكر ولإسترداد كرامة الوطن كما أوهموه. فقادوه الى نصر منقوص هدفه لم يكن إسترداد الكرامة بقدر تحريك القضية لإيجاد محللاً سياسياً لسلام زائف ما لبث أن اثبتت الأيام أنه قضى على كل التضحيات وحول أكتوبر ونتائجها الى هزيمة سياسية على المدى التاريخى.
حدث هذا عندما عاد فسدة العسكر للتنعم بنصر لم يصنعوه بل صنعه المخلصون من رجال وجنود الشعب المصري. ولكى يرتع فسدة العسكر بأريحية في مملكتهم كان يستلزم التخلص من كل الابطال الحقيقين ممن افرزتهم حرب الاستنزاف ثم اكتوبر من امثال الشاذلي وبدوي وغيرهم وهو ما حدث لاحقا إما بالتنكيل تارة والتخلص او الابعاد تارة أخرى.
هذه العملية في التخلص من كل الوطنيين في الجيش لم تتوقف عند هذا الحد بل إمتدت الى يومنا هذا بما قد يسمى الاحلال والتجديد لكل من هو وطني مخلص حيث يتم تسريحهم مبكرا وأصبح الالتحاق بالكليات العسكرية قاصرا على طبقات بعينها حيث يضمن ولائها لمملكة العسكر. وفي خلال هذا إنغمس العسكر في سلسلة من التنازلات التي أضاعت ابسط مفاهيم العمق الاستراتيجي و الأمن الإقليمي للدولة المصرية .
هذه السلسلة من التفريط في حقوق الوطن ، بدأً من كامب ديفيد مرورا ببيع الغاز المصري لإسرائيل إلى التنازل عن حقوله البحرية حتى وصلنا الى التوقيع على تفهمات سد النهضة والتي ستخنق مصر مائياً ، اقل ما توصف به أنها عهراً سياسياً قواده قادة العسكر .
اما على المستوى المحلى ، لكي يتسنى للعسكر السيطرة على كل الوزارات والهيئات وإحكام القبضة على المملكة العسكرية مدنياً، عمل العسكر منذ يوليو 52 على تربية الكثير من محدودي الخبرة و ضعاف النفوس من الوجوه التي تربت في أحضان الحقبة الناصرية طوال ستينات القرن الماضي لكي تقود سياسات البلاد منذ الستينات ولاحقاً في الثمانينيات والتسعينات.
وعلى سبيل المثال لا الحصر العديد وزراء التعليم والاعلام ورؤساء الوزراء الذين هم في الأصل من طلائع التنظيم الطليعي والاتحاد الاشتراكي في الحقبة الناصرية.
وظل العسكر يدير مملكته من خلف الستار و يبسط يده على كل شيء من إقتصاد وإعلام وتعليم لتوجيه وجدان الشعب الى تيه مظلم يضمن له استمراره في السيطرة على مملكته وزيادة نفوذه بها. الامر الذى هيئ بيئة حاضنة لتفريخ أجيالاً جديدة من الشيوعيين الجدد بالإضافة الى المستترين القدامى والذي ما وإن سقطت الشيوعية في بلادها حتى خلعوا على أنفسهم وصف الليبراليين.، والذين وظفهم العسكر ليصبحوا أذرعه الإعلامية ، هذا النوع من الليبراليين ما لبث وان تنكر لما تحمله الليبرالية من معنى الحرية والديمقراطية عندما إنقلب على الحكم الديموقراطي بتأييد مذابح العسكر في حق الشعب المصري التي حدثت قبل وبعد الانقلاب العسكري بل ان الكثير منهم كان بمثابة معاول لهدم اول مسار ديموقراطي فى البلاد.
ومن مقتديات سيطرة العسكر على مملكته المزعومة، إن ولاء الحكم العسكري في مصر أصبح أولًا واخيراً لما يسمى جيش كامب ديفيد ومن يموله، وأن استراتيجيته للحفاظ على الأمن القومي وسلامة أراضي ووحدة الوطن ما هى الى شعارات يتاجر بها على الشعب المصري لإقناع أبنائه بالعمل لديه كمرتزقة او في السخرة فيما يسمى بالتجنيد الإجباري وبيع الوهم المشوب بالخوف لمختلف طبقات الشعب. ودليل ذلك ما ادارته الطغمة الانقلابية العسكرية بضرب لحمة البلاد في مقتل وبتقسيم الشعب المصري بالطول وخلق النزاعات وأسباب الكراهية بين أبنائه مما هدد السلم والسلام الاجتماعي بل ووحدة البلاد وهى اخر حصون الأمن القومى لأية دولة.
أما على مستوى الحريات فقد أقام العسكر وعلى مدى ستة عقود حربا ضروس ضد كل من يطالب بقدر من الحرية والديمقراطية وفى القلب من هذا مجموعات الإسلام السياسي فقمع الحريات مما أوجد بيئة خصبة لتبنى العنف والذي قام براعيتها وإستغلالها للقضاء على كل نجم يبزغ للمطالبة بحقوق سياسية عادلة او نظام ديموقراطي سليم.
كان العسكر طوال مدى تلك العقود ستة يعمل على الاستمرار في تخدير الشعب بجرعات دورية من الكذب والتضليل وساعده في ذلك أساليب التعليم الفاشلة التي خلقت نسبة كبيرة بين طوائف الشعب تعانى من الوعي الاعمى والمنطق المشوه. ولا ننكر ان العسكر قد نجح الى حد كبير في هذا الامر حتى حدثت ثور 25 يناير 2011. اذاً فالمشكلة هي فى ذلك الحكم العسكري الذي بدأ بتغيير العقيدة العسكرية للجيش المصري وفق رغباته ومصالحة حيث تحول الى جيش لمن يدفع أكثر متاجراً بدماء الشعب في الحروب والهزائم ليبسط سيطرته على مملكته. وعندما شعر الحكم العسكرى بتهديد مملكته ما لبث ان قتل أبناء هذا الشعب وخيرة شبابه فى مجازر رابعة واخواتها ،وهو المنوط به الدفاع عن هذا الشعب وحمايته، وهو ما يعتبر النتاج المباشر ليس فقط لتغييرالعقيدة العسكرية للجيش المصرى بل هو أيضا ناتج عن تشويه عقيدة الشعب من خلال التحكم في تشكيل وجدانه
كانت تلك القراءة التاريخية السريعة مجرد مقدمة لمحاولة فهم حقيقة الصراع، فما بين هتاف “الجيش والشعب ايد واحدة” الى ان صرخت دماء الأبرياء بـ “يسقط يسقط حكم العسكر” بعد الانقلاب العسكري كانت فقط مرحلة التعرف على المشكلة التي بذل الجميع الغالي والنفيس من أجل الوصول الى تعريفها.
هذا التعريف الذي بات جليا في يوم الانقلاب في 3 يوليو2013 وما تلاه من مجازر حيث كشف الحكم العسكري عن وجهة القبيح. وأصبح واضحاً أن العسكر واذنابهم تتبنى فكراً معاديا تماما الى كل ما هو إسلامي او مطالبا بحرية او ديمقراطية وخاصة الإسلام السياسي الذي يظنون انه ينازعهم مملكتهم. إذاً فإن انقلاب 3 يوليو 2013 ما هو الا عودة البلاد الى سيطرة العسكر المطلقة ولكن هذه المرة كلاعب على المسرح وليس من خلف الكواليس معلنها صراحة في غير موقف ” اما ان نحكمكم او نقتلكم “
ومن هنا نَخلُص الى ان حقيقة الصراع في مصر ليس صراعا سياسيا على السلطة بين تيار الإسلام السياسي وفي القلب منه جماعة الاخوان المسلمين و المجموعات و الأحزاب الأخرى المنادية بالديموقراطية من ناحية و الحاكم العسكري المنقلب على اول تجربة ديموقراطية حقيقية من ناحية أخرى.
انما هو في الواقع صراعاً طويلاً بين الحق والباطل، بين شعب يسعى الى إنتزاع حقوقه في حكم نفسه بنفسه من خلال قواعد الديمقراطية السليمة التي تضمن له الحصول على أبسط حقوقه الإنسانية من العيش في الحرية والعدالة اجتماعية وبين طغمة عسكرية جاثمة على صدر هذا الشعب تدعى ملكيتها للبلاد والعباد بل وتنازعه أبسط حقوقه الإنسانية.
إن هذه الدعاوى بإعادة التموضع الثوري لا ترتكز على آية دراسات تثبت مدى جدواها فى تغير حقيقى يثمر عن تحرر الوطن و استرداده من بطش الحكم العسكرى بل إنها تسعى الى تقديم تنازلات مجانية مقابل وعود محتملة لا تخلف كثيرا عن تنازلات اوسلو واخواتها.
فى هذه المرحلة الهامة في التاريخ المصري فإنه ينبغى على كافة التجمعات الثورية في الداخل و الخارج وبمختلف توجهاتها أن تحدد أهدافها وتخط استراتيحيتها بناءاً على تعريف حقيقة الصراع. و أن تدرك تلك التجمعات الثورية أن الاختيار الثورى هو الاختيار الوحيد و إن آى صيغة سياسية له لابد ان تكون مبنية على تعريف حقيقة إنتصار الثورة ألا وهو إنهاء الحكم العسكري و إسقاط كل اشكال الملكية العسكرية و تصحيح عقيدة الجيش ضمان عودته الى ثكناته وإبتعاده الكامل عن السياسة وأن تصبح مؤسسة الجيش مثلها مثل آي مؤسسة من مؤسسات الدولة مثلما هى فى كل دول العالم المتقدم وهذا ما تضمنته وثيقة حماية الثورة الخاصة بالمجلس الثوري المصري.
ولابد أن تدرك كل التجمعات الثورية أن توحيد توجهها نحو هذا الهدف لهو أُولى مفاتيح النصر إن شاء الله وإنه فى تلك المرحلة المفصلية و الحساسة من التاريخ المصري ، والتي تستصرخنا فيها دماء الشهداء ودموع الأطفال وأنات الأمهات والزوجات وحقوق المظلومين والمعتقلين بل وحق الشعب المصري فى ان يعيش بحرية و كرامة، يتوجب على الجميع التعامل بالاحترافية الثورية الازمة لإدارة تلك المرحلة.
و ان يعى الثوار ان من يتماهى مع تلك الرؤى والتي قد تنادى بحلا سياسياً او تفاوضياً بصورة او أخرى مع قادة مملكة العسكر فيتبنى رؤية للتراجع خطوة للخلف او إعادة التموضع مما يساعد على إعطاء الفرصة للطغمة العسكرية بالهروب من حقوق الدماء التي سُفكت ويقبل بشروط تجعلنا نعود الى عصر مبارك مرة أخرى مختزلةً المشهد في قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي وجوقته المحيطة به فإنما يضحى بقضية مستقبل وحدة وطن و سيدفع الجميع ثمن هذه الاخطاء ولعقود يعلم الله وحده مداها بل و يُعتبر مُشاركاً فيما آلت إليه الأوضاع وفى الدماء التي سالت. وهو ما سيخلق لنا مشهدا مطابقاً لأسلو جديدة ولكنها في هذه المرة بنكهة مصرية خالصة.