في كتابه تشريح الثورة، حدد كرين برينتون أربعة مراحل عامة للثورة تبدأ بمرحلة تمهيدية للثورة؛ ثم تبدأ أحداثها في مرحلتها الأولى وتطبيقها العملي الذي يتسم بعدة مظاهر منها حكم المعتدلين والبحث عن الحل الوسط بين النظام القديم والثورة مع تدهور اقتصادي؛ ولكن تفشل هذه المحاولة وتبدأ المرحلة الثانية بحكم المتطرفين. وفي وجهة نظر برينتن يكون المتطرفون من الثوار؛ ربما لم يكن شاهد الثورة المصرية بعد؛ وتتسم هذه المرحلة بعنف دموي واستمرار الانهيار الاقتصادي وإبعاد المعتدلين عن السلطة، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الاستقرار والتي يتزن فيها المجتمع على قيمه سواء الجديدة أم القديمة. وقد ناقش أربع ثورات كبرى، الفرنسية والأمريكية والإنجليزية والبلشفية، وقد تشابهت إلى حد ما الثورات في مراحلها الرئيسة.
وعند محاولة تطبيق النموذج على الثورة المصرية في 25 يناير نجد أنها عبرت تلك المراحل بفارق بسيط ولكنه مؤلم؛ هذا الفارق أن الثورة المصرية عبرت بالثلاث مراحل الأولى التمهيدية وحكم المعتدلين ثم حكم المتطرفين ولكن تحت وصاية الثورة المضادة في مشهد كوميدي يدعو للبكاء كمشاهد المبدع نجيب الريحاني.
فلم تستطع الثورة المصرية أن تحكم مصر بعد 11 شباط/ فبراير وإذا جاز القول إن الثورة حكمت مصر فقد حكمتها منذ 28 كانون الثاني/ يناير حتي 10 شباط/ فبراير. أما بعد ذلك فقد استطاعت الثورة المضادة أن تستعيد السلطة في مصر منذ ذلك التاريخ.
لم تستطع الثورة بكل مكوناتها أن تمتلك السلطة في أي من مراحلها. وهذا العبث الثوري إن جاز التعبير، نتيجة عدة مقدمات في طبيعة تكوين التيارات الفكرية المصرية التي نشأت وتطورت في ظروف غاية في الصعوبة والتعقيد أدت إلى حالة من القدرة على تجميع متناقضات غير قابلة للتواجد في عقل واحد.
فما يسمى الجيش المصري هو الحاكم الفعلي لمصر منذ مئتي عام. وبعد عامين من الانقلاب نتساءل جميعا كيف فعلنا ذلك ووضعنا الثورة المضادة علي رأس السلطة وظللنا عامين ندعي أن الثورة نجحت أو حتى في طريقها للنجاح؛ إنه ليس ادعاء للحكمة بأثر رجعي ولكنه محاولة لعدم تكرار كوميديا الثورة المصرية.
لا أستطيع وربما لا يستطيع أحد تحديد كيف كان يفكر عسكر مصر في الأيام السابقة لتاريخ 11 شباط/ فبراير. ولكن كل الأحداث تشير إلى أنه قرر منذ اليوم الأول أن يحتفظ بالسلطة مهما كلفه الأمر ويبدو أنه أدرك طبيعة المراحل التي ينبغي أن تمر بها الحالة الثورية حتى تهدأ.
بدأ بشهر العسل مع الثورة وامتلأ المجتمع بالأمل في غد أفضل ثم ورط العسكر الجميع في معركة صراع المعتدلين والمؤيدين للفكرة الإصلاحية والحلول الوسط مع النظام القديم سواء من الأحزاب الموجودة قبل الثورة أو غالبية التيار الإسلامي المعاصر والذي يميل إلي الحل الإصلاحي والابتعاد عن المواجهة؛ وهمش تماما أصحاب الفكر الثوري الجذري “الراديكاليين” سواء من التيارات اليسارية الثورية أو التيارات الإسلامية التي بدأت في محاولة صياغة نمط ثوري من داخل التيار الإسلامي.
وبالنظر إلى ما حدث في الثورة الفرنسية في سنواتها الأولى فقد أدت محاولة الحل الوسط إلى تقوية بنية الثورة المضادة ورفع ذلك من أسهم الراديكاليين من قادة الثورة مما أدى بالشعب في النهاية إلى أحداث اقتحام القصر الملكي وسقوط الملكية تماما وارتفاع أسهم المتشددين الراديكاليين؛ وعلينا أن نتذكر دائما أن الثورة الفرنسية حكمت فرنسا منذ بدايات الثورة وكانت تقاوم الثورة المضادة وهي في السلطة، أما الثورة المصرية فقد حكمت الثورة المضادة منذ يومها الاول وكانت تقاوم الثورة التي لم تمتلك يوما السلطة.
في مصر بعد توريط الجميع في الدخول في مستنقع الصراع السياسي في زمن الثورة – أو التي نظنها كذلك – دفعت الأمور إلى المرحلة الثالثة وهي حكم المتطرفين الذين هم في الغالب يحسمون إلى حد كبير الصراع في صالح أحد الكفتين إما الثورة أو الثورة المضادة. في الثورات الكبرى الأخرى كان المتطرفون من الثوار مما أدى إلى تراجع كبير للثورة المضادة وبالتالي حققت الثورات الكبرى الكثير من أهدافها قبل مراحل الاتزان والاستقرار؛ أما في الثورة المصرية فقد استطاعت الثورة المضادة احتلال مرحلة التطرف والتي تتميز بالحرب الأهلية والنزعة القومية الحادة وتركز السلطة في شخص أو أكثر وتدمير شبه شامل للطرف الآخر وهو الثورة في الحالة المصرية.
استطاعت الثورة المضادة توريط الجميع في عامين بعد 11 شباط/ فبراير وانتظرت اللحظة المناسبة للانقضاض كي تمارس هي الإرهاب والذبح للثورة والثوار؛ سارت مصر في الطريق العام للثورات وتتابع مراحله ولكن الثورة لم تكن أبدا في الوضع الأقوى وكانت الثورة المضادة دائما في الوضع الأقوى حتى في اللحظات التي ظننا فيها أن الثورة على وشك النجاح.
تعامل العسكر بمنطق المحارب الذي يناور بالانسحاب للاستعداد للانقضاض الحاسم و يبدو أن إدارة الثورة لا تختلف كثيرا عن إدارة المعارك ؛ لم يدرك الثوار أن عليهم استخدام قدر من القوة مع الثورة المضادة وأن سياسة محاولة الوصول إلى حل وسط مع بنية السلطة للثورة المضادة هي في حقيقة الأمر هدية مجانية للثورة المضادة لتقوية نفسها؛ هذا إن كانت الثورة تمتلك السلطة فما بالنا في حالة امتلاك الثورة المضادة لها.
عمليا انتهت مراحل الثورة – إن صح وصفها كذلك – وبقيت المرحلة الأخيرة وهي مرحلة الاتزان والتي تتحدد قطعا طبقا لأوزان القوة الحالية بعد انتهاء المراحل الثلاث السابقة.
أرى أن إعادة تقييم ما حدث في الأعوام الخمس السابقة وإعادة صياغة الأفكار المستقرة التي نبني عليها رؤانا أصبح حتميا؛ فعلينا أن نسأل هل 25 يناير وصلت لمرحلة الثورة أم أنها كما قال أحد أعضاء المجلس العسكري بعد أيام قليلة من 11 فبراير مجرد أحداث يناير. هل إذا كانت ثورة فما هو ما يجعلنا نوصفها كذلك في ظل عدم امتلاكها للسلطة يوما واحدا. وما هو مستقبلها في ظل النهاية الدرامية بالحكم العسكري الاستبدادي في مراحلها الأخيرة؟. وإذا لم تكن كذلك فلم الإصرار على استمرار البقاء في قيدها والدوران في فلكها؟.
هذه الأسئلة المبدئية لا أستطيع الإجابة عنها ولكن ربما يتحتم الإجابة عنها لمحاولة تحديد مسارات المستقبل؛ فالمحاولات الفاشلة قد تكون إحدى خطوات النجاح، ولكن عندما نستطيع الخروج من المقدمات الفكرية الخاطئة وبناء نسق فكري صحيح من التاريخ والواقع معا حتى لا نبقى في مسارات التيه أكثر من ذلك.