تعاني القطاعات العمالية في مصر من احتلال شبه كامل لمؤسساتهم النقابية الرسمية وهذا نتيجة جهد متواصل لأجهزة الدولة الأمنية على مدى عقود طويلة.
فالنظم العسكرية لا تقبل بوجود كيانات تغرد خارج السرب وطبيعة النظام السياسي والإداري المصري مصمم منذ ما يزيد عن مئتي عام منذ أن أنشأه محمد علي باشا لخدمة مشروع إنشاء الجيش الذي سيحمي له وجوده على رأس السلطة في مصر وتكون أداته لتغيير بنية وطبيعة المجتمع المصري.
بقيت روح النظام الإداري والسياسي هكذا بالرغم من التغييرات المتتابعة في شكل بنية السلطة وحافظت على جوهرها الكامن وروحها الخفية لأنها مصممة لذلك الغرض. وبالتالي لم تستطع تلك المؤسسات القبول بنظام مختلف يتحول بتلك المؤسسات إلي نظام ينتمي للمجتمع ولا ينتمي للجيش.
والمؤسسات العمالية إحدى تلك الأذرع التي لا تقبل المؤسسة العسكرية الحاكمة منها خروجا عن النص؛ وهي تدرك مدى قوة هذا القطاع وقدرته على إحداث تغييرات جذرية ليس فقط في شكل النظام ولكن في بنيته.
لذا لجأت النظم العسكرية المتتابعة منذ انقلاب يوليو الأول عام 1952 إلي السيطرة الأمنية على الجهاز الإداري للدولة و تأميم النقابات العمالية والسيطرة عليها بالفكر الأمني العميق المترسخ في العقلية العسكرية وأيضا بالفكر الطبقي المسيطر عليهم الذي يوحي لهم أنهم هم مصر وأن الباقي هم أدوات لحماية مصرهم؛ بالتالي لا يؤمن النظام العسكري بقدرة المجتمع على إدارة نفسه أو حتى إدراك مصلحته؛ وربما الصورة الشهيرة بعد يناير 2011 التي انتشرت في كل مصر لصورة الجندي وهو يحمل طفلا رضيعا تحت الشعار المضلل” الجيش والشعب يد واحدة” أبلغ صورة عن رؤية المؤسسة العسكرية للشعب المصري بكامله.
العمال تلك الكتلة شديدة الضخامة التي لديها القدرة على إحداث تغييرا حاسما في علاقات السلطة والثروة في أي مجتمع؛ عانت كما لم يعاني أحد في مصر؛ تم القضاء الكامل على العمل النقابي الحقيقي مرورا بدخول مالية متدنية وبتأهيل فني شديد الفقر وتدمير شامل لقطاعات عمالية حيوية داخل القطاع الصناعي المصري طبقا للنظرة الأمنية الخالصة؛ بالإضافة إلي بيع العمال بشكل شبه كامل لصالح رأس المال دون أي اعتبارات اجتماعية أو حتى اقتصادية لمجرد خدمة كتلة الثروة في مصر.
ويعاني موظفو الحكومة المصرية – كما يعاني العمال – الكثير من المشاكل من حالة التضخم الكبير في حجم العمالة والرسوب الوظيفي؛ وهذا يمثل خلل حاد ويؤدي إلى فشل المنظومة الإدارية، إلا أن عسكر مصر يستخدموا الكتلة الضخمة للموظفين في أغراض سياسية لضمان كتلة كبيرة منتمية للنظام الحاكم.
والموظفون والعمال “إذا جاز لنا التفريق بينهم نظريا” ليسوا أكثر من أدوات عند الطبقة الحاكمة لتثبيت السلطة واستقطاب الثروة في بنية الاستبداد المصرية؛ لذا تسعى سلطة الاستبداد للحفاظ على هاتين الكتلتين تحت السيطرة ويدركوا جيدا أن خروجهم عن السيطرة هو انهيار للنظام المتحكم بالسلطة والثروة في مصر.
وما حدث أمس في مصر من احتجاجات كبيرة للموظفين على قانون الخدمة المدنية أحد المؤشرات علي عدم قدرة هذا القطاع على تحمل ضغطا أكبر من السلطة العسكرية الحاكمة وبالتالي فهو يخوض معركة حاسمة معها ولا مجال فيها للتنازل؛ و سينعكس هذا التوجه بدوره عاجلا أم آجلا على القطاع العمالي لأن روح القانون الجديد تعبر عن رغبة السلطة الحاكمة في إعادة تشكيل أجهزة الدولة لتتوافق مع النظام الرأسمالي الحالي.
لذا فإن الخطوة القادمة بقدر كبير من اليقين ستكون ضد العمال “الجناح الثاني” الذي يراد ضبطه ليتوافق مع بنية النظام الرأسمالي الجديد الأكثر قسوة ووحشيه من أنظمة أوروبا في القرن الثامن عشر مع عمالها.
الموظفون في الغالب كتل لا تفضل الاحتجاج – فما بالنا بالثورة – وربما عبر تشيكوف في قصته الرائعة موت موظف عن التركيبة النفسية للموظفين بشكل عام؛ ولكن القضية الآن مع كتلة الموظفين في مصر تجاوزت القدرة علي الاحتمال وإنها أصبحت معركة بقاء ؛ ويراد بهذا القانون ضبط جناح السيطرة علي السلطة – الموظفون – ووضعهم تحت السيطرة الكاملة ليس فقط عن طريق تصفيتهم ولكن بزراعة حالة من الخوف الدائم داخل مؤسسات الدولة وبالتالي السيطرة الكاملة على جناح السلطة.
لذا فربما لا يوجد حل عند هذا القطاع الضخم إلا التنازل عن صمته التاريخي و التحرك من أجل الحفاظ على البقاء ضد النظام الحاكم.
كما يجب علي العمال استباق الهجوم المتوقع من عسكر مصر على الجناح الثاني للسيطرة – الثروة – والتحرر من المخاوف الجزئية والتحرك من أجل حماية هذا القطاع الضخم القادر على التغيير؛ وهذا بالضغط على عسكر مصر لمنع أي تحرك هجومي ضدهم والإصرار على المضي قدما لتحقيق عدالة توزيع الثروة. إن القوي العمالية هي القوى الحاسمة في أي عمل ثوري حقيقي وهي القادرة على حسم المعركة بين السلطة والمجتمع؛ وهي القادرة على ضبط إيقاع أي نظام سياسي بشرط أن تكون قادرة على تنظيم نفسها بعيدا عن أي قوى سياسية أو حزبية.
وأرجو ألا ينخدع أحد بتغيير هنا أو هناك في أحد نصوص القانون أو حتى تغييره بالكامل لأن الروح العدائية الظاهرة لن ترحل وستظل موجودة وسيعيد عسكر مصر الكرَّة حتى ينفذوا هدفهم.
إن قوة العمال “جناح الثروة” والموظفين “جناح السلطة” على تنظيم إضراب عام ضد سلطة العسكر التي تريد إعادة تشكيل القطاعين لتتوافق مع مصالحها الرأسمالية والسلطوية الجديدة هو الحل الذي سيعيد بناء نمط علاقات جديد يسمح بإيقاف تمدد سلطة الاستبداد العسكري بل وربما كسرها للأبد.
إذن، فالإضراب هو الحل.