ذكرت كلمة السجن ومشتقاتها في القرآن الكريم عشر مرات؛ تسع منها في سورة يوسف وواحدة في سورة الشعراء، الآية التاسعة والعشرون. وارتبط ذكر السجن في كل الآيات بمصر، سواء مع نبي الله يوسف عليه السلام ونبي الله موسى عليه السلام في سورة الشعراء.
إن هذا التخصيص الحصري للسجون في المواضع العشر لمصر له دلالة على خصوصية هذا البلد في قضية الحرية وقدرة السلطة الشديدة القِدَم على استخدام السجن لا لتحقيق العدالة ولكن لتثبيت وإثبات السلطة.
يقول ميشيل فوكو في كتابة المراقبة والمعاقبة ص 159 ” هناك الكثير من الأساليب الانضباطية منذ زمن بعيد في الأديرة وفي الجيوش وفي المشاغل أيضا. ولكن الانضباطات أصبحت خلال القرن السابع عشر والثامن عشر صيغا عامة للسيطرة. فهي تختلف عن العبودية لأنها لا تقوم على علاقة تملك للأجساد؛ إذ إن من أناقة الانضباط أنه استغنى عن هذه العلاقة المُكْلفة والعنيفة حين حصل على مفاعيل نفعية على الأقل بمثل منافع الاستعباد” ويضيف: “إذا كان الاستغلال الاقتصادي يفصل بين قوة العمل ومنتوج العمل، فلتقل أن الإكراه الانضباطي يقيم في الجسم علاقة ضابطة بين كفاءات متزايدة وبين سيطرة متزايدة”. وهو يرى أن مؤسسات الدولة من مدارس وأديرة ومعسكرات للجيش ومصانع وسجون موجودة في إطار صنع حالة من الانضباط الكامل للمواطن. والسجن أحد هذه المظاهر الأكثر قسوة، التي كما ذكرنا ذكرت في القرآن الكريم في مصر حصرا.
إذا المجتمع المصري طبقا لفوكو هو مجتمع يسعى إلى حالة من الانضباط والتنميط منذ الفراعنة؛ فالسجن وهو أعلى مستوى من محاولات تنميط وضبط المجتمع لم يذكر إلا بها؛ فهو المعبر الأقوى والأعنف عن السلطة؛ وساعدت الطبيعة الشديدة المركزية لمصر والوجود الحتمي بجانب النهر من شدة فرض النظام والتنميط والانضباط على المجتمع.
وهذا الانضباط والتنميط ارتبط ارتباطا وثيقا بالاستبداد وبالتالي ظهر هذا المشهد المتطرف من الانضباط مبكرا وحادا ومتميزا؛ إن تراكم فكرة الانضباط جعل المجتمع المصري إلى حد كبير يميل إلى الخضوع وبالتالي أصبح أكثر سهولة الخضوع للقوة بهذا الشكل الكبير والذي ظهر في عدة مرات خلال التاريخ الحديث بشكل لافت بعد الغزو الفرنسي؛ وأعاد محمد على هذا النموذج الانضباطي الشديد القسوة على المجتمع؛ ويسرد د.خالد فهمي في كتابه كل رجال الباشا الصفحات من 330 -344 الإجراءات الانضباطية التي تهدف إلى السيطرة المطلقة على كل المواطنين؛ فمن عقاب شيوخ البلد وجلدهم في حالة تسترهم على الهاربين من الجيش إلى تصاريح المرور للأفراد بين القرى والسجون والجلد للمتهربين في حالة عامة من عسكرة وضبط كل المجتمع الذي تحول إلى سجن كبير واقترب المجتمع من حالة العبودية الكاملة.
إن جنون الرغبة في ضبط كل شيء هو أحد مظاهر جنون الاستبداد كما أظهر جورج أويل في روايته 1984؛ وهو أحد مظاهر المجتمع المصري منذ قديم الأزل، وأهم مظاهره هي ظاهرة السجن القديمة. ويبدو أن المجتمع المصري بقطاعاته الواسعة التي سقطت تحت مظلة هذا النمط الانضباطي الشديد القسوة فقدت الكثير من قدرتها على الشعور بما تعاني منه؛ بل ربما تجاوز ذلك إلى مرحلة أكثر تطورا بعدم قدرته على الخروج من تحتها حتى لو أتيحت له الفرصة.
ولذلك فإن تدمير إحساس الفرد بقدرته على الاحتجاج أمام هذا النموذج الانضباطي الذي يراه في المدرسة والمصنع والجيش وغيرها من المؤسسات التي يتعامل معها يجعله لا يجنح إلى الاحتجاج إلا عندما يشعر بقرب ضياع مظلة الاستبداد فهو يحتج للعودة إلى ما ألف عليه من نظام انضباطي؛ ويشعر أن وجوده ذاته أصبح في خطر عند غيابها.
إن وجود تلك المظلة الانضباطية له درجة من الأهمية في كبح جماح المجتمع ولكن عندما تتجاوز تلك القيود درجة معينة من الحد الأدنى اللازم لضبط المجتمع تتحول إلى إحدى مراحل السجن الكامل في كل مكان؛ ويسعى النظام الاستبدادي إلى ضبط كل مؤسساته كما ذكر سابقا لا لكبح جماح المجتمع ولكن للسيطرة الكاملة عليه وتدجينه تماما.
ولذلك لم يعط نموذج الحكم الإسلامي التشريع للسلطة وجعل المظلة الانضباطية التي تحكم المجتمع ممثلة في التشريع والقانون متجاوزة لسلطة المجتمع وسلطة الحاكم مهما كان شكل نظام الحكم؛ لأن الواقع والتاريخ يثبتان أن تنظيم وضبط المجتمع باستخدام التشريع والقانون والعقاب يتبع الطبقة الحاكمة صعودا وهبوطا عندما يكون غير متجاوز لها؛ وهو يؤدي في النهاية إلى الاستبداد في أي إطار كان وبأي صورة تكون.
ومصر نموذجا مثاليا لذلك؛ فمن عزيز مصر مرورا بفراعين مصر المتعاقبين حتى الآن حاول الجميع فرض السيطرة الكاملة على المجتمع وإلغاء أي صوت نشاذ عن الغناء الجماعي للسلطة؛ وأصبح استخدام السجن مرتبطا ارتباطا وثيقا لا بالعدالة أو تطبيق القانون ولكنه ارتبط بأعلى درجات الضبط وتغييب تلك الأصوات المختلفة داخل السجون؛ “قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَها غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ” (الشعراء الآية 29).
فقضية فرعون مع موسى عليه السلام كانت قضية ذاتية ليس لها علاقة بالعدالة وأيضا مع يوسف عليه السلام (ولئن لم يفعل ما آمره ليُسجنَنَّ وليكونا من الصاغرين) يوسف 32 كانت قضية ذاتية؛ وبالتالي لم يكن السجن في مصر -وما زال- إلا وسيلة رئيسية لإخفاء عوار السلطة ولإعادة ضبط المجتمع طبقا لرؤية الفرعون.
والسجون في مصر الآن هي إحدى أدوات تدمير المجتمع وهو وسيلة “قانونية” للاختفاء القسري ولا يقوم فقط النظام صاحب السلطة بحجب معارضيه في السجون ولكنه ينزع منهم ببطء حق الحياة عن طريق القتل البطيء؛ والكوارث المتعاقبة والشهداء المتتابعون وشهادات الموجودين بالسجون تؤكد أن فرعون ما زال حيا وسجونه مع طول الأمد أصبحت أكثر جنونا.
فرعون صورة مستمرة في تاريخ مصر وسجونه انعكاسا لاستبداده ولقدرته على الضبط والسيطرة؛ وصورة مجسمة لحصار الشعب واستعباده؛ وتلك السجون -التي تزداد عددا يوما بعد يوم وتبتلع ضحاياها بلا توقف وتحاول إعادة إنتاجهم ليتوافقوا مع بنية السلطة- هي أكبر شاهد على الفرعون وملئه. ولن يسقط جحيم السجون إلا بسقوط فكرة الفرعون وملئه وليس الفرعون نفسه.