لكل ثورة ثورة مضادة تنشأ فور حدوثها؛ وفي الغالب تبدأ الثورة في لحظة يكون النظام السياسي في لحظة ضعف كبير تسمح للقوي الثورية بالتحرك لتحقيق تغيير كبير علي الأرض، وتستطيع الثورة بحالة الهياج الشعبي المؤطر احتلال مساحات في مناطق السلطة ويعتمد اتساع تلك المساحة علي مدي القوة الدافعة للثورة وتراجع السلطة الحاكمة التي تمثل نواة الثورة المضادة.
وفي الثورات شبه الناجحة تستطيع الثورة ضغط الثورة المضادة في مساحة ضيقة وتطور من نجاحها بزيادة الضغط واستمراره علي النواة الصلبة للثورة المضادة حتي تحقق تغيير حقيقي في بنية السلطة؛ وفي الغالب لا تكون للثورة موجة واحدة؛ فعلي سبيل المثال الثورة الفرنسية استطاعت عبر عدة مراحل الوصول إلي مرحلة متقدمة من امتلاك زمام السلطة.
بدأت الثورة الفرنسية في الإعلان الكامل عن نفسها عند اقتحام سجن الباستيل في 14 تموز 1789 ولكنها لم تحقق تقدما كبيرا ضد الثورة المضادة إلا في 10 آب عام 1992 عندما اقتحمت الجماهير قصر الملك في معركة دموية سقط فيها ما يقرب من 800 جندي من حرس الملك وما يقرب من 400 مواطن؛ وكان ذلك نهاية للنظام الملكي في فرنسا “مؤقتا”.
ما يهمنا في هذا السياق هو أن الثورة تستطيع تحقيق أهدافها حتي لو مرحليا بالضغط الشديد علي الثورة المضادة؛ إلا أن السياق التاريخي للثورات يؤكد حتمية حالة الارتداد للثورة المضادة لتحصل علي مكاسب بعد توقف حالة المد الثوري لتصل إلي نقطة توازن تعتمد علي ميزان القوي بين الطرفين وهما الثورة والثورة المضادة.
والمؤكد أن لا أحد من الطرفين يستطيع القضاء علي الآخر من ناحية الوجود المادي علي الأقل؛ إلا أنه في الغالب لا يصدق أحد ذلك إلا بتجربة ذلك بنفسه؛ فالثورة الفرنسية وهي النموذج الذي نتناوله فقدت كل شيء بعد عشرين عاما؛ فقد استطاعت الثورة المضادة بكل أدواتها الارتداد وعادت الملكية من جديد ثم تحولت إلي ملكية مطلقة كما كان قبل الثورة.
وعند استخدام ذلك النموذج في الثورة المصرية؛ نجد تشابها كبيرا ففي 25 كانون الثاني لم تحقق الثورة الكثير وبقيت السلطة في يد النظام؛ وكانت الفرصة مواتية في موجة تشرين الثاني 2011 “الشبيهة ب 10 آب في فرنسا” لتوجيه ضربة عنيفة قاضية للنظام إلا أن الخلل في مفاهيم كافة القوي في ذلك الوقت أدي إلي ضياع الفرصة واقتنصت الثورة المضادة هذا التراجع للثورة وانقضت عليها بمنتهي القسوة في انقلاب تموز 2013.
وهذا السرد لتوضيح أن حجم ارتداد الثورة المضادة المصرية كان كبيرا وسريعا وكانت الخطة ألف “إذا جاز التعبير” هو تدمير شامل وكاسح للقوي المركزية الرئيسية في الثورة المصرية “مع احترام كافة التحفظات علي آدائها الثوري” وهي التيار الإسلامي؛ ويؤكد ذلك حالة تمهيد الأرض الكبيرة التي حدثت في العام السابق علي الانقلاب العسكري بشكل ممنهج؛ وذلك لتدمير أي نواة صلبة يمكن بناء ثورة عليها أو استكمال مقدمات الثورة التي حدثت في تشرين الثاني 2011؛ إلا أن وقائع التاريخ تؤكد استحالة ذلك مما يوحي بوجود الخطة باء.
ونعود قليلا إلي الوراء في 2005 عندما اضطر النظام إلي فتح مساحات للمعارضة المصرية بكل أشكالها بانتخابات تنافسية علي مقعد رئيس الجمهورية وبحوالي 100 عضو في مجلس الشعب وهو عدد يمكن أن يحدث ضجيجا شديدا ولكنه غير مؤثر حيث أنه أقل من النسبة التي يمكنها تشكيل القوانين أو حتي إيقافها داخل المجلس.
وكان هذا الشكل اللطيف يقلل من حدة التوتر السياسي المصري ولكنه لم ينهه؛ حيث كانت القوي تطمع في المزيد؛ فهذا النموذج هو المثالي للنظام؛ معارضة شكلية وأصوات عالية ولكنها لا يمكن أن تؤثر في بنية السلطة. إلا أن الخطر من الرغبة في المزيد تقلق النظام.
الخطة باء هي تجسيد لنموذج 2005 ولكن بفارق هام وشديد الخطورة؛ إن حالة 2005 هي حالة احتجاجية كان المجتمع يتعامل مع السلطة بشكل صدامي عال زاد في السنوات التالية حتي وصل ذروته في 2011 وكان قابلا للتطور لولا سوء تقدير “النخبة” وعدم قدرتها علي قراءة المشهد بشكل صحيح؛ أما الخطة باء فهي عودة للنموذج دون هذا الشكل الاحتجاجي -حتي ولو مرحليا- بإظهارها كأنها الحل المنقذ لمصر أو بشكل آخر هي انتصار للثورة المصرية.
فلا مانع من غياب رأس المشهد الآن “ولو أنه من وجهة نظري احتمال ضعيف” ولا مانع من عودة الجيش للخلف وظهور “المخلص” في الواجهة محمولا علي الأعناق؛ المخلص الذي سينقذ مصر من المنحدر الكارثي التي تذهب إليه بحماسة منقطعة النظير؛ وربما تخرج المظاهرات العارمة مزينة بطائرات القلوب الملونة والمدرعات الحاملة لأعلام مصر وقليل من الورود المتطايرة هنا وهناك لإضفاء مشهد الثورة التي ستنجح سريعا علي يد المخلص والجنرال الذي لا يعلمه أحد غير مالكي الريموت كنترول الذي ربما يكون الجنرال الحالي.
بالطبع لا يريد الكاتب أن تسقط مصر إلي المنحدر ولكنه يؤكد أن الخطة باء لن تغير من الأمر شيئا؛ إن الخطة باء كود 2005 لن تمنع السقوط المدوي ولكنها ربما تؤجله؛ وهذا لأن الثورة لم تكن الطريق إلي الدخول في هذا المنحدر ولكنه الحكم العسكري المستبد الفاسد الفاشل علي مدي عقود طويلة ؛ وهذه الخطة لن تفعل شيء إلا تأكيد وشرعنة حكم العسكر من وراء ستار؛ إذا مقدمات السقوط لم تتغير بل ازدادت رسوخا.
إن الحل في إنقاذ مصر من هذا السقوط المدوي هو نجاح الثورة وانتزاع السلطة من العسكر؛ وخسائر الثورة ” إن صح التعبير” أقل كثيرا من خسائر الخطة باء.
عندما تجد المدرعات تلقي الزهور والطائرات ترسم القلوب فأنت في انقلاب عسكري مهما كان حجم الجماهير في الشارع ومهما كان عدد الشهداء؛ وعندما تطلق المدرعات الرصاص أو علي الأقل لا تراها فأنت في ثورة. فلا تنخدعوا بكود 2005 ففيه سم قاتل.