الحديث مليء بالشجون ولكنه ضروري وسط مئات الأكاذيب التي أصبحت كالحقائق التي لا يأتيها الباطل؛ و أحد أهم تلك الأكاذيب الهائلة هي أن مصر حاربت من أجل فلسطين.
قبل ذكر عدد شهداء الحروب من المؤمنين بهذه الكذبة الكبرى لبدء السباب والتخوين، لا بد أن نحدد مساحتين مختلفتين؛ فهناك مساحة الشعب المصري الذي لم يمتلك السلطة ولا أدوات للقوة منذ أن سيطر على مصر محمد علي؛ فقد حاول الشعب قدر استطاعته الدفاع عن فلسطين ربما لأنه يدرك فطريا وبدون معرفة بالتاريخ أن فلسطين وبالأخص مدينة غزة هي بوابة مصر وحصنها ودرعها؛ أما المساحة الأخرى فهي للطبقات الحاكمة وتوابعها التي استولت على مصر وربما على كافة دول المنطقة في صورة أقليات سواء عرقية أو طبقية.
لذا، فالحديث عن الكذب يخص تلك الطبقة الحاكمة ومن ينتمي إليها من أفراد ومؤسسات سواء لمصالح مادية أو لعدم القدرة على الإدراك بعد أن قامت تلك الطبقات الحاكمة بتدمير وعي وإدراك قطاعات ضخمة من المجتمع سهل لها قلب الحقائق وتحويل الأخ إلي عدو وبالتبعية العدو إلي صديق.
وهذا استعراض سريع لكبرى محطات الخيانة من “مصر” بحق فلسطين؛ ففي عام 1917 أثناء الحرب العالمية الأولي ساهمت “مصر” بمئة ألف جندي عرفت بالتجريدة المصرية في جيش بريطاني من نصف مليون في معركة غزة الثالثة وكانت هذه المعركة بداية لاحتلال القدس؛ تجدر الإشارة إلي إرسال “مصر” تجريدة أخرى أي كارفور لمساعدة البريطانيين أيضا.
وفي عام 1948 انطلقت الجيوش العربية في تظاهرة كبرى من دول الطوق لتحرير فلسطين وقد سبقتها قوات شعبية حققت بعض الانتصارات إلا أن الجيوش تدخلت وتوقفت ويا للعجب عند خطوط التقسيم التي أقرتها عصبة الأمم بعد ذلك.
ويقول جيرمي سولت في كتابه تفتيت الشرق الأوسط ص 175 “إن مجموع القوات العربية المشتركة يصل تقريبا إلى الخمس مما يستطيع الصهاينة سوقه من المقاتلين رجالا ونساء والصورة التي كانت عن الجيوش العربية الجرارة التي دخلت فلسطين من كل جانب هي كذبة ومع استمرار القتال كان الميزان يميل بصورة شديدة لمصلحة الدولة الجديدة”. ويبدو كأن الجميع اتفق على هزيمة كبيرة تتبعها تقسيم.
أصبحت غزة جزءا من مصر كما كانت معظم فترات التاريخ منذ قرار التقسيم وبعد معركة 56 بقيت غزة تحت الحكم المصري وكانت غزة مركزا للمقاومة في تلك الفترة ضد العصابات الصهيونية وهي دائما حائط الصد بين الصهاينة ومصر؛ جاء عام 1967 وضاعت غزة وسيناء تماما وربما ضاعت مصر كلها بفساد الطغمة الحاكمة؛ ولم تكن حرب 67 لها أي علاقة بفلسطين؛ فلم تكن الدعوات برمي الإسرائيليين بالبحر إلا متاجرة معتادة من عسكر مصر بالقضية؛ أما الحرب فكانت لها حسابات وأسباب أخرى ليس هذا موضعها. ولكنها فلسطين تلك المادة الخام التي يتاجر بها الجميع ويقتلها الجميع.
بعد معركة تشرين الأول في 1973 والتي روج لها على أنها انتصار أسطوري؛ والتي كانت ردا على كارثة 1967؛ وحاربت قوات جزائرية وفلسطينية بجانب القوات المصرية لإزالة فضيحة 67؛ ولكن لم يكن لفلسطين حضور بعد ذلك في أي مفاوضات؛ وكان الهدف من كامب ديفيد وما قبلها هو تبريد كامل للصراع بين العرب وإسرائيل وإنهاء الدور القديم للحكومات ودخولها في مرحلة جديدة من إظهار الوجه الحقيقي ولتلعب الدور التي أنشئت من أجله. وكأن الهدف هي حرب متعادلة في أكثر التفسيرات رحمة “بمصر” ليتبعها انتزاع الأقنعة.
وانطلق الجيش المصري الجديد القديم يظهر حقيقة تكوينه وأهدافه التي أنشئ من أجلها وعلى مدي أربعين عاما منذ 73 حتي الآن تحرك بخطوات محسوبة لينهي الصورة الذهنية التي لم تكن يوما متوافقة مع الواقع وهي أننا نحارب من أجل فلسطين؛ تشويه كامل للشعب الفلسطيني وحصار خانق لشعبه وتعاون أمني واستخباراتي مع إسرائيل ووصل الحال في الأيام الأخيرة إلي إغراق غزة بمياه البحر تحقيقا لحلم الصهاينة.
هذا العرض الشديد التبسيط لمراحل علاقة مصر بفلسطين في حروبها ليكسر الكذبة الأولى الكبرى أن مصر حاربت من أجل فلسطين والحقيقة أنها لم تفعل ذلك والحقيقة أيضا أن في كل حرب خاضتها “مصر” خسرت منها فلسطين؛ ففي 48 ضاعت نصف فلسطين وفي 56 أصبح من حق إسرائيل المرور في خليج العقبة رسميا وفي 67 ضاعت باقي فلسطين وغزة وفي 73 وقرينتها كامب ديفيد وتوابعها من حصار وتشويه؛ سقط القناع وعرفنا الوجه الحقيقي لما تسمي الجيوش العربية. فمئات الآلاف من الشهداء كان الكثير منهم يحارب في المعارك الخطأ لصالح الهدف الخطأ ولصالح العدو في أحيان كثيرة دون أن يدري؛ أما محركو عرائس الماريونت فكانوا يستخدمون القوة البشرية للمجتمع المصري لتحقيق أهدافهم التي أظهرت النتائج أنها لم تكن أبدا لصالح مصر الحقيقية ولا لصالح فلسطين ولكنها لصالح “مصر” المختطفة من طغمة العسكر ولاعبي الماريونت المحركون لهم.
إن المصطلح السائد الآن عن الجيش المصري هو جيش كامب ديفيد؛ إلا أننا نحتاج إلي العودة قليلا إلي الخلف وربما كان جيش اللنبي هو الوصف الأكثر دقة؛ خاصة مع احتفال “الجيش المصري” مع بريطانيا بذكرى الحرب العالمية الأولي. وهو أكثر دلالة على دور “الجيش المصري” في ضياع فلسطين ومن قبلها مصر.