في 8 أيار/ مايو 1945 وقع الألمان وثيقة الاستسلام أمام القائد الأعلى لقوات التحالف وأمام قائد القوات الروسية في مدينة ريمنز الفرنسية. وفي السادس من آب/ أغسطس من العام ذاته، أُلقِيت القنبلة الذرية الأولى على اليابان مما أدى في النهاية إلى استسلامها الغير مشروط في 2 أيلول/ سبتمبر من العام ذاته.
ومنذ أكثر من 1400 عام، وقع محمد عليه الصلاة والسلام وثيقة صلح الحديبية، وتفاوض عمر المختار مع الإيطاليين في ليبيا، وفي تشرين الأول/ أكتوبر 73 جلس المتحاربون علي مائدة المفاوضات أو هكذا قالوا لنا.
دائما يجلس الطرفان المتحاربان على مائدة “المفاوضات” في كل المواقف، ففي النهاية يجلس المتحاربون ليصلوا إلى اتفاق، هذه حقيقة ولكنها ليست بهذه البساطة، ويبدو أن الكثيرين في هذه الأيام سيصدرون هذه الجملة بمنتهى الحماس، لا بد أن نجلس علي مائدة التفاوض، ولكن الجلوس مجردا عن السياق ليس تفاوضا، سمِّه ما شئت ولكنه ليس كذلك.
هناك سياقات مختلفة ما قبل مائدة المفاوضات تحدد كيف ستكون حدوده وإلى ماذا سيصل، ففي حالة ألمانيا واليابان كان الجلوس مع العدو فقط لتوقيع وثيقة الاستسلام بعد مقاومة طويلة جدا وفي منتهى القوة، لا نناقش الآن مدى صحتها أو أخلاقيتها ولكن موضوع الحديث عن وضع التفاوض للطرفين، فقد أيقن الألمان واليابانيون أن المعركة انتهت وسحقت قوتهم بعد مقاومة طويلة، بينما جلس نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام مع أعدائه كان قد خاض ثلاثة معارك معهم وإلى حد كبير كان هناك تكافؤ في القوي بين الطرفين.
وعمر المختار شيخ المجاهدين كان فارق القوة هائل وجلس علي مائدة المفاوضات وهو يقاوم واستمر حتي أعدم على يد المحتلين.
ألمانيا واليابان وعمر المختار قاوموا واستمروا في المقاومة حتي أنهوا كل أدواتهم، فلا تفاوض إلا عند انتهاء قوة أحد الطرفين أو توازن القوى بين الطرفين كما كان مع نبينا الكريم، هذه سمات المعارك إذا اعتبر الخائضون لها أنهم في معركة. أما إذا كانت غير ذلك، فلك أن تجلس مهما كان وضعك وكيفما شئت.
الآن يعيد التاريخ نفسه حاملا معه كل رسائل التفاوضات السابقة من أقصاها إيلاما في الاستسلام الكامل الغير مشروط إلى الحديبية وهو تفاوض الأنداد، يحمل معه رسائله لنا جميعا ويضعنا أمام ضمائرنا ويضع أمامنا آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من المشردين والمعتقلين وملايين المحبطين، كلهم ينظرون إلى هؤلاء من أصحاب القرار ينتظرون منهم قولا أو فعلا ربما يعيد الأمل.
إن الملايين التي وقفت خلف القوى الإسلامية بعد انقلاب تموز/ يوليو قد وضعت ثقتها بهم أنهم قادرون على تحرير مصر من قبضة العسكر، وكما فوض جزء من المصريين الجيش لقتل الثورة فوض جزء من المصريين تلك القيادات لحماية الثورة. والآن وبعد عامين من التفويض المتبادل يبدو أن طرفا من الاثنين فعل ما وعد به بينما الآخر يبحث عن وسيلة للتراجع أو كما يسميها “التفاوض”.
فما يروج له الآن لا يقارن بكل النماذج المذكورة، فصلح الحديبية كان من موقع قوة وتوازن في القوى وعمر المختار كان يفاوض المستعمر وهو يحمل بندقيته وألمانيا واليابان قاومتا بكل ما يمتلكا من قوة حتى انهارت الدولتان تماما أما الآن بنموذجنا الحالي فهي محاولة للانسحاب من معركة قررت خوضها ودفعت الملايين لها. وأرى أن ما يحدث الآن في موضع آخر وتوصيف آخر لا يجب مقارنته بكل ما فات.
إن الدخول في أي تفاهمات الآن مع الانقلاب العسكري هو اعتراف مكتمل الأركان بالهزيمة أمام العسكر دون معركة وترحيل للمأساة المصرية عدة أجيال قادمة، وهو تخل مباشر عن تفويض الملايين لحماية الثورة المصرية وهو تدمير لكل الأصول الفكرية والأخلاقية التي يتحدث عنها التيار الإسلامي في أدبياته المختلفة وهو إعلان نهائي وحاسم عن انسحاب التيار الإسلامي بشكله الحالي من معركة الصراع الطويل الممتد لمئة عام، ونهاية مؤلمة لحقبة الجماعات الإسلامية
إن أي صورة من التعامل مع السلطة الحالية وبأي مصطلح يسمى به، سواء كان تفاوضا أو تهدئة أو حتى استكمال للثورة، لا تندهش فسيكون الاستسلام في قاموس البعض هو استكمالا للثورة، هو توقيع على وثيقة استسلام كالتي وقعتها ألمانيا واليابان وليس كما سيقال هو صلح الحديبية. وهو إعلان ببيع الدم والوطن والعرض. وهو نهاية مخزية لتاريخ من النضال للجماعات الإسلامية تجاوز فيه أحرار مصر عن كثير من أخطائها ووقفوا صفا واحدا وانتهكت أحلامهم ودمرت حياتهم في سبيل الاستمرار في معركة التحرير الحقيقية، ولكن يبدو أن البعض يريد تلك النهاية المؤلمة.
ربما لا تمتلك القدرة على المقاومة لأنها عمل إيجابي يحتاج للكثير، ولكن على الأقل يمكنك الاستمرار في الرفض حتى لا تسقط بغير عودة، ونحن جميعا في انتظار جيل جديد ممن تلونت أيديهم بدماء الشهداء في كل شوارع مصر يحميهم لون الأيدي المخضبة بالدماء من الانزلاق في مفاوضات التوقيع على وثائق الاستسلام.