أصبح الكثير ممن يستمعون إلى كلمة اصطفاف يتحسسون مسدساتهم؛ فهم يعتبرونه سبابا شخصيا لهم؛ كما أن هناك الكثير أيضا لا يجدون حلا ولا أملا إلا في جمل وأفعال تحتوي هذا المصطلح الذي تمزق بين الرافعين له إلى مستوى الحل الوحيد للأزمة المصرية وصولا للخافضين له إلى أنه تخل كامل عن الثورة.
كل من الطرفين له حججه و أسبابه وقناعاته، ولكن القضية ليست في ذلك، وربما لو خرجنا من حصار المصطلح لنا نجد حلا؛ لأن المستمع لكلمات الطرفين يجد أن كليهما له منطق وحجة معتبرة، ولهذا وجب الصعود درجة إلى أعلى لرؤية المصطلح بصورة أكثر وضوحا ربما ننقذ أنفسنا منه أو ننقذ أنفسنا به.
وهذه الأزمة نتيجة الضغط الشديد على طريقة التفكير، وهي سحب الحوار والضغط دائما على المصطلح الذي يمثل مجرد إجراء، وهذا لفصله عن أهدافه التي تواجد من أجلها، وبالتالي يسهل تغيير محتواه ومعناه، ويسهل إعادة تشكيله طالما فصلته عن سبب وجوده.
فمثلا الثورة هي تغيير للنظام السياسي والاجتماعي؛ فتجد مجموعات يتم دفعها للتحدث بشكل قوي ودائم عن الثورة حتى يرتبط ذهنيا للجماهير بين هذه الأفراد والثورة، كما حدث مع بعض الشباب بعد 25 يناير، وتنفصل الثورة بذلك عن أهدافها الحقيقية وترتبط بالأفراد، ثم يغير الأفراد المعاني ويصبح الانقلاب ثورة والاستبداد ديمقراطية والوعي الجمعي يوافق على ذلك تحت الضغط الكبير.
هكذا مع الاصطفاف فقد تم فصله الآن عن السؤال الأهم “لماذا الاصطفاف وعلي ماذا ومع من؟” لقد حدث ضغط هائل في الأسابيع الأخيرة على هذه النقطة لمحاولة ترسيخ المصطلح وإرغام العقل الجمعي للجماهير المنتمية لمعسكر الثورة على التعامل به؛ وأصبح يمثل حالة عامة مع أن الجميع لا يدري حتى الكثير من الداعين له أي تفاصيل عن محتواه أو نتائجه، ولكنه زخم الحالة والاندفاع نحو الدفاع أو الهجوم؛ فأصبح الجميع يتحدث عن المصطلح الذي نجح البعض في تحريكه في هذا الوقت.
لماذا الاصطفاف؟ كانت البداية مع الاصطفاف هو الرغبة في العودة لنموذج 25 يناير؛ لأنه كان مشهدا يحمل توافق القوى السياسية والشعبية على أهداف واحدة. وأرى أن هذا بعيدا بشكل واضح ومنطقي عن احتمالات الحدوث إلا إذا رجعت كل ظروف 25 يناير من كل الأطراف الموجودة في تلك اللحظة، وأحد هذه الاحتمالات أن تفقد كل الأطراف ذاكرتها؛ الجيش والدولة العميقة والكنيسة وكل التيارات السياسية ونعود جميعا إلى 25 يناير لنعيد السيناريو مرة أخري، ولكن سيعود بانقلابه ورابعته ونهضته ومذابحه الأخرى، ويقول كارل ماركس: “يعيد التاريخ نفسه مرتين: في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة”؛ لقد أعاد التاريخ نفسه مرتين، الأولي في 54 وهي المأساة، والثانية في 2013 وهي المهزلة، ولا أدري ما هو الوصف الذي يمكن أن يطلق على المرة الثالثة.
لا أستطيع تحديد ما هي المعايير التي يفترض بها البعض أن نموذج 25 يناير يمكن أن يحقق نجاح في ظل تغير المعادلة تماما.
على ماذا نصطف؟ نصطف على الأهداف التي أعلنتها الثورة. حسنا، لقد كانت الأهداف الستة معلقة بالميدان ومنها ما حاول تحقيقه الرئيس محمد مرسي وهاجت الكتل التي نريد الاصطفاف معها الآن، فما هو السبب الذي جعلها تناقض ذاتها، وما هي الضمانة حتى لا يتراجعوا ثانية عن أهدافهم التي كانت مكتوبة في ميدان الثورة؟ لا شيء، لكنه الاصطفاف، وكل شيء سيكون جيدا بإذن الله.
تحول الاصطفاف من إجراء لهدف كبير -وهو الانتصار للثورة- حتى لو كان خاطئا إلى حالة عامة منفصلة عن أهدافها ومرتبطة بعدة قيادات ثم تحول بعد ذلك إلى قيمة في حد ذاته بعيدا عن أي تفاصيل، وهذه كارثة لا تقل عنفا عن كارثة الانقلاب العسكري.
مع من نصطف؟ نصطف مع الشعب؛ مع العمال المطحونين المنتهكين، مع عمال التراحيل واليومية الذين يموتون جوعا وقهرا وفقرا، مع المهمشين الخارجين من الزمن بقوة القهر والذل والمعاناة التي يتقنها النظام المصري، مع الشباب الذي يؤكد كل يوم أنه سيحرر مصر من الطغيان.
أما محاولة الاصطفاف مع “نخب” وجماعات سياسية قتلت نفسها انتحارا بوقوفها بجانب الانقلاب العسكري أو انزوت وآثرت السلامة وسط حمام الدم بحجة التوافق، فهو ليس توافقا مع الثورة أو مع الوطن أو مع أي شيء جيد بأي حال.
دائما ما يردد الإسلاميين أننا نضحي من أجل الوطن، منذ مئة عاما نستمع إلى تلك العبارة، ولكن بعد 60 عاما من المأساة وسنتين من المهزلة، أي وطن ذلك الذي أُنقِذ؟ وما هو الوضع الأسوأ من ذلك الذي أنقذتم مصر منه؟ أرجو ألا تكون الإجابة سوريا والعراق.