في إحدى العلامات الممتعة في السينما المصرية قدم عاطف الطيب لوحة فنية راقية في فيلمه “سواق الأتوبيس“، رصد فيه بعمق تحولات الشخصية المصرية في السبعينيات..
وكان المشهد الأخير صرخة غضب شديدة وعنيفة من بطله حسن سلطان ضد حالة من الفشل والانسحاق تحت الضغوط الهائلة التي تعرض لها، وكان حسن مع كل صرخة ولكمة يرى أمام عينه كل لحظات الانسحاق ويراكمها داخله حتى وصل إلى الذروة في اللكمة الأخيرة والصرخة الأخيرة.
يملأ شوارع مصر الآن ملايين من حسن سلطان يعانون من الانسحاق، ولا يجدون الفرصة أو حتى الرغبة في صناعة المشهد الأخير، ولا يزال الغضب يتراكم بشكل مخيف.
لن تجد حسن سلطان نسخة 2015 على الشاشات ولا في صفحات الجرائد؛ فهم هناك يملأون الشوارع الفقيرة والمصانع المتهالكة وعربات نقل عمال التراحيل وسط الحقول.. يملأون الشوارع في كل مصر، تعرفهم بسيماهم والغضب الساطع في وجوههم، وهم غير مشتركين الآن في أي من المعركتين الدائرتين سواء في معسكر السلطة التي تسمى الانتخابات ولا في معسكر “الثورة”، وهي معركة مصطلح الاصطفاف، فكلاها لا يعنيه، فهو لا يزال يراكم غضبه الذي لا نعلم جميعا متى سينفجر.
فالمعركة الأولى معركة فاسدة ليس فقط بمفهوم الشرعية، ولكن بكافة المفاهيم القيمية والأخلاقية، فهي تجري بين مجموعة من المرتزقة في أغلبهم ومعهم جزء ممن يزالون يحاولون إثبات -لسبب مجهول- أننا لا زلنا في دولة أو حتى مجتمع، فهي معركة لن تزيد حسن إلا غضبا، وحديثنا الآن عن المعركة الثانية التي اتسعت وتضخمت مثل كرة الثلج ولم تنته تداعياتها بعد، وربما يأتي اليوم الذي تتحول فيه إلى ذكرى سيئة عند الجميع.
حسن 2015 هو من ملأ شوارع مصر منذ الانقلاب العسكري، وقابل الرصاص بصدره العاري، وحمل أشلاء لا يعرفها، وبكى عليها، ولكنه استمر واستمر، أملا في أن يخرج من حالة الانسحاق التي تحاصره في كل حياته، كان ينتظر كل جمعة بلهفة ليستعيد حلمه في الحرية.. وهو من ملأ سجون مصر ومعتقلاتها، وكان يتوق شوقا إلي المشهد الختامي الذي يفرغ فيه كل غضبه فيمن قتلوه ودمروا أمله وحياته.. هو من امتلأ ثقة أن هناك من يعلم أن الانقلاب زائل لا محالة كما كان يسمع.
والآن يجد تلك المعركة حامية الوطيس حول أمور عدة.. الاصطفاف، الشرعية، الثورة، وغيرها من المصطلحات التي انهالت علينا من كل حدب وصوب؛ فالشرعية ليست كما كانت في 3 يوليو، والثورة يعاد صياغة معناها لتتوافق مع إرادة النخبة، والاصطفاف لا يدري أحد ماذا يعني تحديدا، فالمصطلح لا ينفصل عن تفسيره وضوابطه، وإلا أصبح مثل اللغم الأرضي الذي لا تراه، ولكنه جاهز للإطاحة بك عندما تطأه قدمك.
هل تتصورون بماذا يشعر هذا الرجل؟ هل الملايين التي تنظر الآن إلى الوثائق والتهافت وسيل الاعتذارات وطلقات تجفيف مفهوم الثورة والشرعية التي واجهت الرصاص من أجلهما، هل ستعاود الثقة بأي من الطرفين؟
هل ستستطيع الوثائق ومحاولات إعادة صياغة المصطلحات والاحتفاء الأسطوري بالاعتذارات، هل ستستطيع إعادة صناعة وعي حسن سلطان؟ ربما تنجح في إعادة صناعة وعيه، ولكن إذا نجح ذلك فما هو الفارق بين تيار الثورة وتيار الانقلاب؟
فكما نجح إعلام النظام في إلباس الانقلاب الدموي زي الثورة سيقوم إعلام “الثورة” بإلباس المعارضة زي الثورة. أي فارق إذا؟
ربما يقنع حسن نفسه، ولكن لن يفلح في تفريغ غضبه إلا فترة قليلة، تماما كما فعل الانقلاب مع مريديه، فالآن الغالبية غاضبة والحلول غير الجذرية لن تنجح إلا بتأجيل الانفجار مؤقتا، وإعادته أكثر شراسة، وأرجو ألا تكون في وجوهنا.
وإذا فقد رجلنا ثقته في الجميع وشعر ولو باطلا أن ما يحصل صراع لا ينتمي لفكرة الثورة الحقيقية، بل ينتمي للثورة التي يراد إعادة صياغة معناها، وإذا شعر أن الجميع يتحدث باسمه دون أن يكون له صوت، فسيخرج يوما ما ضد الجميع، ولن يبقي على أحد.
إن حسن سلطان في ثمانينيات مصر حاول قدر استطاعته مقاومة الانسحاق، ولم يستطع عندما وجد فرصة لصرخة عنيفة، لم يتردد، وأطلق صداها في أكبر ميادين مصر ضد كل من ساهم في سحقه.. أما حسن سلطان 2015 فحالته أسوأ بكثير، وستكون صرخته وعنفه في كل شارع وميدان وعلينا على الأقل، إن لم نكن معه ألا ندفعه إلى الصراخ في وجوهنا.
أدعو الفريقين المناضلين كل بطريقته إلى النظر إلى الملايين من حسن سلطان قبل السير في أي طريق، وأرجوهم أن يحافظوا على أقل تقدير على المفاهيم والمصطلحات دون ضبطها على الواقع.. فلعل هناك جيل قادم يفعل ما لم نستطع النجاح فيه. فأحيانا تكون الهزيمة مع صناعة وعي عميق أفضل من الإحساس بالانتصار المليء بتشوهات الأفكار.