تناول المقال السابق الثورة الإيرانية الأولى التي بدأت عام 1906 وانتهت مرحليا بإقرار دستور؛ وينبغي التذكرة أن التدخلات الأجنبية العنيفة في إيران وخاصة من الانجليز والروس ويناوشهم الأتراك؛ كان لها تأثير سلبي على الثورة؛ كما أن غياب توجه فكري وأيديولوجي واضح كان عاملا سلبيا أدى إلى حالة سيولة في الأفكار وبالتالى سيولة في الإجراءات التالىة والتي بدورها سهلت مهمة الثورة المضادة التي قضت تماما على تلك الموجة الثورية.
والعجيب أن الثوار عندما ظنوا أنهم حققوا انتصارا على السلطة الحاكمة؛ قام محمد شاه ملك إيران بتوقيع اتفاقية مذلة عام 1907 مع الانجليز والروس سلمهم تقريبا إيران مناصفة بين شمال روسي وجنوب انجليزي. ثم قام بحل البرلمان وضربه بالمدافع إمعانا في الانتقام من الثورة. وقد دعمت روسيا محمد شاه حليفها بعد هزيمة جيشه أمام المقاومة في إقليم أذريبيجان الشمالى على يد المقاومين بزعامة باقر خان؛ وقامت بغزو لشمال إيران لم تستطع المقاومة مجابهته ولجأ ستار خان وباقر خان الى تركيا.
لم يتوقف الشعب الإيراني عن المقاومة واستطاع عام 1909 أن تجبر الملك على الهروب بعد انتصاراتها المتتابعة ودخول العاصمة طهران والسيطرة علىها كاملة في 16 يونيو 1909. ويبدو أن خيانة الطبقة الحاكمة المنفصلة عن المجتمع هي جين متجذر بها، فقد فر الى روسيا بموافقة انجليزية واعتمد على الروس لإعادته لمنصبه؛ ويذكر أن السفير الروسي بطهران قال نصا “إننا سوف نلتقي محمد علي شاه قريبا في بلاطه ملكا لإيران وإني إذ أعلن عن هذا فإنه لا يعني أنني أفشي سرا لأنه عين الحقيقة”؛ فهو بمنتهى التبجح يذكر أن الهارب سيعود على ظهر دبابات الروس الى عرش إيران.
طلبت انجلترا وروسيا من الحكومة الإيرانية قبل الغزو المرتب سحب السلاح من الثوار ورفضت مجموعة من قوى الثورة واستطاعت مقاومة الجيش الروسي في تبريز وكبدته خسائر فادحة إلا أن المقاومة انهارت في النهاية وانتهت الثورة تماما وأصبح الثوار بين الاعتقال والتشريد.
والملاحظ هو تكرر مشاهد في الحالات الثورية للمجتمعات؛ فسحب السلاح كان واحد من الأهداف الرئيسية في أحداث الثورة الفرنسية بعد انهيار الىعاقبة وحتى تنتهي الثورة الشعبية تماما؛ كما هو الحال في إيران حيث ضغطت قوى الاحتلال على “الحكومة الإيرانية” لتمهيد الأرض لها قبل الغزو.
وفي مصر أدارت الثورة المضادة حملة هائلة من تشويه الوعي الإنساني حتى أصبح مجرد الدفاع عن الحق في الحياة جريمة ضد الدولة الفاسدة؛ فعليك الاستسلام لكل من يقتلك أو يدمر حياتك. لم تكن الثورة المضادة في مصر بحاجة الى سحب السلاح من الشارع فقد أدارت المعركة بدرجة أكثر مهارة حيث جعلت الجميع أو على الأقل أعداءها ينهزمون هزيمة نفسية مدوية ويعتبرون أن مقابلة الرصاص بابتسامة الشهيد انتصارا أخلاقيا وحضاريا.
والملاحظة الأخرى هي القضاء على كافة القيادات الثورية أو تشويهها؛ فغياب القيادات عن صدارة المشهد يقلل من حالة الاندفاع الثوري وهذا ما فعلته الثورة المضادة في مصر من تشويه لكافة الرموز الثورية الحقيقية وصناعة رموز مشوهة وما زالت تمارس هذا السلوك حتي الان لمنازعة أي قيادة حقيقية قد تظهر بالمشهد المصري بالقيادات الكرتونية المصنوعة على يديها.
إن الثورات التي تفشل تتحول الى مقبرة لكل الثوار وتقوم سلطة الثورة المضادة بعملية تطهير شاملة لكل أشكال الثورة أو حتى ذكرياتها من العقل الجمعي؛ بل وتحاول الانتقام من كل نجاح أو حتى تقدم للثورة أثناء تقدمها.
فكما ألغى محمد شاه الدستور وضرب البرلمان بالمدافع؛ ألغت الثورة المضادة في مصر أي صورة للثورة حتى صور الجدران في ميادين مصر أزالتها إضافة الى كل مظاهر التطهير الشامل بكل مصر من كل من له أي توجه ثوري حقيقي. الفساد ملة واحدة والاستبداد ابن الاحتلال الوفي الذي تفوق على والده لأنه أكثر حماقة منه؛ ومضامين الاستبداد العربي الحالى هي مضامين احتلال لا لبس فيه.
انتهت الثورة الإيرانية ودخلت إيران في دوامة الحربين الكبيرتين والتي انتهكت فيها إيران تماما نتيجة لموقعها الشديد الخطورة من الناحية العسكرية. واستمرت المأساة الإيرانية حتى ستينيات القرن الماضي والتي بدأت فيه إرهاصات الثورة الإيرانية الكبرى.
إن التعلم من الموجة الثانية للثورة الإيرانية أمر هام لكل الثورات العربية فكما فشلت الموجة الأولى من الثورة الإيرانية؛ فشلت الموجات الأولى من الثورات العربية وخاصة المصرية؛ لذا وجب علىنا التمعن فيها وكيف سارت وكيف نجحت وهذا ما سنستعرضه بشيء من التفصيل لاحقا.