جسد خالد صالح شخصية أمين الشرطة النموذجي في النظام القمعي المصري باقتدار، وليست القضية في تجسيده للفساد الكبير الذي ظهر عليه حاتم في كل ما يفعله في حياته، ولكنها تلك الحالة النفسية التي يعاني منها أمين الشرطة في المجتمع المصري، وتلك حكاية لها بداية مع النظام المصري.
ففي عام 1967 -ياله من عام- قرر شعراوي جمعة إنشاء معهد أمناء الشرطة، ويتم الالتحاق به بشهادة الثانوية العامة. وكان الهدف أن يتخرج رجل شرطة على قدر مناسب من التعليم، وكان المخطط أن يكون المعهد هو بوابة الوصول لرتبة الضابط بعد عدة أعوام.
ومن المهم ذكره أن تلك الوظيفة ربما لا يكون لها مثيل في كوكبنا؛ فالمنظومة الشرطية تتكون من ضباط وجنود، أو بمعنى أدق طريق لأن تكون ضابطا وآخر لتبقى جنديا؛ أما حالة أمين الشرطة كوظيفة دائمة فلا يوجد له مثيل كما أعرف.
نعود لحاتم المصري وكيف وصل به الحال إلى تلك الحالة المرضية من اللامبالاة وربما الاستمتاع بتعذيب أفراد المجتمع وإهانتهم وإذلالهم، فحجم ما يحدث من إذلال للمصريين على يد الشرطة بكل “أنواعها” أصبح ملهما لعلماء النفس، ليس فقط في محاولة فهم شخصية حاتم ولكنه أيضا محاولة للإجابة على سؤال مؤلم؛ كيف وصل الحال بالمجتمع إلى الصمت لتلك الدرجة؟
فمشهد أمين الشرطة وهو يتحرش بسيدة داخل مترو مزدحم وصمت الموجودين على ذلك تصرف غير مفهوم؛ فكيف جرأ حاتم علي فعل ذلك وكيف جرأ الواقفين على الصمت؟
يبدو أن خمسين عاما من تربية أمناء الشرطة داخل ما يسمى بوزارة الداخلية المصرية قد أنتج حالة من التشوه النفسي الكبير لدي هذا القطاع، فحاتم يعلم أنه في منطقة وسطى بين الجندي الذي لا يملك من أمره شيئا وبين “الباشا” ضابط الشرطة الذي يعيث في الأرض فسادا بلا رقيب ولا محاسب.
حاتم وجد نفسه هكذا وسيبقى هكذا وهو يحاول أن يتأقلم مع هذا الوضع؛ ولم تمانع الدولة الفاسدة في صناعة قطاع فاسد جديد يستطيع أن يخفي الفساد الأكبر بل ويحمي منظومة الفساد الهائلة ويكون ذراعها القذرة في التعامل مع المجتمع، ويبقوا هم بعيدا ولو نظريا عن التعامل المباشر مع الفساد. ولم تجد خيرا من حاتم ليفعل ذلك.
إن حاتم المصري بائس حقا، ويخرج كل بؤسه وألمه من حالته المؤلمة في إذلال كل من حوله؛ فهو درع “الباشا” وسيفه، والحبل متروك له على آخره من “البشوات” ليفعل نيابة عنهم ما يشاء. وزادت حدة ذلك بعد كارثة 3 يوليو التي أخرجت كل ما يحمل حاتم من إشكالات وكوارث عانى منها على مدى خمسين عاما.
فحاتم ليس له أحد؛ فلا هو من “البشوات” لتحميه رتبته وطبقته الحاكمة، ولا هو بقي في مكانه وسط الناس ليحتمي بهم بل أصبح معاديا لكل المجتمع بكل تنوعاته ؛ ولا استطاع أن يصنع لنفسه شيئا يحمي به نفسه عندما تحين الساعة.
إذا لماذا يبقى حاتم هكذا يدافع عن “الدولة” ويكون أحد خطوط دفاعاتها الهامة؛ وهو يعلم لدرجة اليقين أنه سيكون كبش فداء لها عندما تشتد الأزمة؟
حاتم خسر كل شيء، خسر سمعته، وخسر مستقبله، وسيخسر قريبا وظيفته التي تغدق عليه المال الحرام، وخسر قبل ذلك كل علاقة بالمجتمع الذي قهره لصالح أناس آخرين من “بشوات الكاكي والأسود”. خسر آدميته وأخلاقه ودنياه وآخرته لصالح مجموعة من الفسدة ربما يقضون عليه إذا كان ذلك مفيدا لهم. خسر كل خطوط الدفاع، وبقي وحيدا محاصرا بين مجتمع يحمل كرها هائلا له وبين “بشوات” لا يألون له بالا.
سيبقى حاتم هكذا، ولن يستطيع الإجابة على السؤال السابق، ونحن أيضا لن نستطيع، فقد عبر حاتم المصري كل حواجز المنطق، وما زال يبدع في تخطيها بإصراره على البقاء في قاع المستنقع يحمل “بشواته” على كتفيه، ويدوس بقدميه على المجتمع كله.
حاتم لن يتغير، وسيبقى هكذا، وسيستمر في الملهاة التي يكتبها بدماء المصريين وبعبث كل حاتم، إلى أن تستغني عنه “الدولة” عندما تصبح تكلفة بقائه كبيرة عليهم أو تطيح به الثورة القادمة في الأفق.
حاتم رجل بائس، ليس له أحد، وعليه الاختباء والانزواء بعيدا للأبد، قبل أن يلقى ما لا يحب أو يرضي.
يسقط حاتم وتسقط دولة حاتم
يرونه بعيدا ونراه قريبا.