التاريخ ليس فقط أحداثا متراصة متتابعة؛ ولكنه يحمل بين أحداثه روحا وقيما ومفاهيما يستطيع القارئ والباحث أن يعرفها ويستخلصها من بين أحداثه، فهو كائن حي إن صح التعبير وتراكم الأحداث وتفسير الظروف والمجالات المحيطة بالحدث جزءا من ذلك الكائن الحي الذي نسميه التاريخ.
ودائما ما عانت الأحداث التاريخية من هوي المؤرخ والكاتب، وهذا الهوي إما يكون عن رؤية الكاتب الخاصة وأفكاره الذاتية وأري أن ذلك قلما ينجو منه أحد من المؤرخين، فكل منا يرتدي نظارته الخاصة التي يري بها العالم ويقرأ بها الأحداث، ويشفع لهؤلاء حرصهم الشديد علي التوثيق والتدقيق فيما يستنتجون من روح التاريخ.
أما من يرتدون تلك النظارة ولا يدققون فيما يكتبون؛ فهم يحيدون بروح التاريخ عن مساره ويطبعون عليه ما يريدون وهذه بالتأكيد جريمة لا تغتفر؛ فمن تصدي لهذه المهمة الكبرى والتي تعتبر من الركائز الرئيسية في بناء وعي الأمم وهويتها عليه أن يكون حريصا للغاية علي ألا تطغي أفكاره علي الحقائق وعليه بذل جهدا مضاعفا لحماية سرده التاريخي وما يستنبطه من روح التاريخ من صبغته الخاصة.
هناك صنف ثالث وهو بالتأكيد أسوأهم جميعا؛ وهو الذي يعيد بناء التاريخ وأحداثه؛ وبالتالي ما ينتج عنه من استنتاجات؛ طبقا لهواه الخاص، فلا مانع من لي عنق الأحداث وإعادة تركيبها بما يراه مناسبا لرؤيته.
وهناك فارق كبير بين النموذج الثاني والثالث؛ فالثاني يفعل ذلك ضعفا أو لقلة قدراته البحثية وهم في النهاية لا يستمرون كثيرا، أما هذا النوع الثالث فهو الكارثة الكبرى؛ ففي الغالب هم يمتلكون ناصية البحث والكتابة ويمتلكون من القدرة علي الإقناع ما يمكنهم من إعادة الصياغة ليحققوا ما يريدون.
وتصبح الكارثة محققة ومتكاملة عندما تكون الأحداث التاريخية مرتبطة بشكل مباشر ببناء العقيدة الدينية أو الفكرية عند المجتمع، وهناك فارق بين إعادة قراءة التاريخ وبين إعادة صياغة التاريخ؛ فالأولي حق للباحث طبقا لمعايير علمية دقيقة أما الثانية فهي في الغالب محاولة لتغيير وجهة الأحداث التاريخية لتحقيق شيء ما في غرض كاتبه.
فتاريخ سكان الأمريكيتين التي أبادتهما “قوي التنوير” صاغته تلك القوي “التنويرية” للعالم علي أنه حالة من الجنون والصراخ لمجموعة من الهمج والحمقى ؛ وعندما أعيدت القراءة وجدنا حضارات عميقة لم نكن نعلم عنها شيئا. ولكنه كاتب التاريخ ذو القلم المراوغ الذي يحاول أن يخفي جريمته وجريمة من يكتب نيابة عنه.
وما حدث في عهد محمد علي في مصر علي سبيل المثال من تدمير ساحق للمجتمع المصري تحول علي يد كتاب التاريخ من النوع الثالث إلي بطل لا يشق له غبار وهكذا الحادث مع الكثير من أحداث تاريخ مصر الحديث. فهو ليس فقط تمجيدا لأشخاص أو ترميزا لأحداث ولكنه حالة مستدامة من بناء العقل الجمعي للمجتمع وإعادة صياغة الحاضر المبني علي التاريخ الوهمي.
هذا التاريخ الوهمي صانع الأصنام الذي جعل كثيرا من المصريين يعتقدون أن “الجيش المصري” جيشا مغوارا لا يشق له غبار وحامي الحما وباني “الدولة”. فكم الأكاذيب التي تنتج من تزوير التاريخ قادرة علي تحطيم أي مجتمع؛ فهو إعادة بناء لروح التاريخ وبالتالي لكل المستقبل.
وفي الآونة الأخيرة ظهرت محاولات لإعادة صياغة بعض الأحداث المفصلية في السيرة النبوية وعلي سبيل المثال صلح الحديبية وفكرة حلف الفضول؛ فهناك حالة عامة من البعض يحاولون فيها الوصول إلي ما يبغون من انسحاب كامل من المعركة التي فرضت علينا فرضا ووضعنا جميعا في معركة صفرية وحرقت كل المراكب خلف كل الأطراف ولم يبق إلا الاستمرار.
فأصبح صلح الحديبية تراجعا للخلف وحلف الفضول الذي كان حلفا لإعلاء الحق وضمان سلامة المجتمع؛ أصبح مجرد وقوف للجميع بجانب بعضهم البعض، هؤلاء يحاولون الوصول من إعادة صياغة التاريخ وقولبته إلي صناعة الحاضر والمستقبل طبقا للرؤية “الجديدة” متجاوزين الكثير من الحقائق التي ربما تفند تماما ما يقولون.
ما ينبغي ذكره أننا جميعا ـ إلا ما ندر ـ نقع في ذلك الخطأ القاتل؛ ولكن عندما تكون الصياغات الجديدة لا تتعارض فقط مع ثوابت تاريخية بل وتتعارض مع أفكار رئيسية في صلب المفاهيم الكبرى فعلينا الحذر الشديد عند التحرك في هذا الاتجاه؛ فهو ليس فقط هروبا من الثوابت إلي الأماني ولكنه تدمير لقيم وأفكار في صلب بناء المجتمع ربما تُحدِث كارثة أكبر مما نعيش فيه.
وللمرة الألف؛ إن الهزيمة مع الثبات علي المبادئ والأفكار الكلية وعدم التلاعب بالتاريخ أهم ألف مرة من نصر زائف مبني علي تدمير للأفكار وجرائم في حق التاريخ والعقيدة.