ليست المرة الأولي التي تراق فيها دماء الشعوب المنتهكة من حكامها؛ فعلى مر التاريخ القديم والحديث كانت هواية الحكام وأصحاب النفوذ هي القتل، قد يكون القتل له سبب ما في ذهنهم، ولكنه في أكثر الأحوال يكون لمجرد تواجدك في المكان الخاطئ وفي الوقت الخاطئ.
من أكثر الحوادث شهرة في مصر هي حادثة دنشواي التي راح ضحيتها أربعة فلاحين مصريين على منصة الإعدام لأنهم أفزعوا ضابطا إنجليزيا قتل امرأة؛ والمأساة أن القضاة الذين حكموا على المصريين بالإعدام كانوا أيضا مصريين أحدهم أخو سعد باشا زغلول والثاني بطرس غالي الجد الذي اغتاله إبراهيم الورداني بعد ذلك. كان هذا “الحكم” للحفاظ علي العلاقة الكاثوليكية بين مصر وإنجلترا في ذلك الوقت؛ فقد كانت إنجلترا سيدة العالم.
وبعد مئة وعشرة أعوام جرى في النهر مياه كثيرة ودماء أكثر؛ فلم يعد هناك داع لمحاكمات حتى لو كانت شكلية كمحاكمة شهداء دنشواي؛ ولا حتى هناك حاجة لقضاة مثل أحمد زغلول وبطرس غالي؛ فقط طلقات البندقية وعنوان جريدة أصبحتا كافيتين لقتل خمسة مصريين.
ريجيني هذا الشاب الإيطالي الذي قتلته “الداخلية” المصرية بعد أن مارست معه هوايتها في التعذيب الجنوني الذي يذكرنا بالعصور الوسطى الأوروبية ومحاكم التفتيش عندما كان الإعدام هو العقوبة المفضلة علي أبسط الجرائم، “الداخلية” المصرية تقتل الآن أي شخص في الشارع بشكل عشوائي فقط لتحاول دفن جريمتها التي فاحت رائحتها العفنة في كل الكوكب.
إن دلالة هذا الحادث إضافة إلى كونها حالة من التدني الكبير في إدارة التلفيق والكذب؛ فهي تؤكد وتعبر عن حالة غياب طويل ومزمن لقيمة المجتمع المصري والمواطن المصري لدى حكامه الفاسدين منذ زمن بعيد، فضحايا دنشواي كانوا قرابين بشرية من أجل بريطانيا ولم يكونوا هم فقط؛ بل سنجد عشرات الآلاف من القتلى على مذبح الدفاع عن بريطانيا في الحرب العالمية الأولى قدمتهم النخبة الحاكمة المصرية نخبا “للعلاقة الكاثوليكية” التي تربط حكام مصر بهم.
ريجيني؛ هذا الشاب البائس الذي ساقته الأقدار لأرض الظلم الدائمة التي لا ثمن فيها لدماء أهلها، ولأن شكل الدماء وربما طعمها أصبح الوجبة المفضلة لأجهزة “الأمن” المصرية؛ أصبحت لا تستطيع مقاومة رغباتها المريضة أمام أي شخص وفقدت القدرة على التمييز بين الدماء المصرية وغيرها؛ ومارست استمتاعها بتعذيبه ثم قتله ثم قذف جثته في الصحراء: تماما كما تفعل مع المصريين؛ إلا أن الحظ العاثر أوقعها في أخطاء وتناقضات فاضحة، كما أن المواطن من أي بلد كان خارج بلادنا العربية المنتهكة لا يُقْتل بهذه البساطة.
كان على النظام المصري تقديم القرابين فداء لريجيني؛ ومن المنطقي أن يكون القربان مجموعة من الأفراد من داخل الجهاز الأمني من أطرافه، مثلا أمناء شرطة أو مخبرين أو حتى ضباط صغار مغضوب عليهم؛ إلا أن النظام يتعامل في قضايا التعذيب والقتل مع الجميع سواء داخل مصر أم خارجها ككتلة واحدة غير قابلة للاختراق؛ لأن أي اختراق لهذا الملف قد يؤدي إلى تفتيته وهو يعتمد القتل والتعذيب كآداة وجودية لا يمكنه إضعافها.
بالتالي كان عليه البحث عن قربان ممن يعتبرهم أدواته للحفاظ على السلطة؛ فهي الأساس والهدف والمبتغى، فقتل خمسة بلا تردد كما هو قتل وسجن عشرات الآلاف من المصريين منذ 25 يناير حتى الآن؛ وقتل مئات الآلاف في رحلته للحفاظ على السلطة وتدمير مصر منذ انقلاب يوليو 1952؛ وسيقتل الكثير فداءا لدماء ريجيني التي تحترمها أُمَّته وعلى المتضررين المصريين الاختفاء.
أصبحت مصر الآن حالة استثنائية في التاريخ؛ ففي أسوأ عصور القتل الجماعي كان هناك سبب ما لقتلك مهما كان تافها، أما في مصر الآن فربما تقتل لأنك فقط كنت تسير في مكان ما أو أوقعك حظك العاثر أمام أحد رجال “الأمن” الغاضبين، أو قررت “السلطة” تقديم القرابين لجهة ما فكنت أنت نتيجة اختيار يانصيب الموت العشوائي.
هذه نتيجة طبيعية لحالة الصمت الطويل على منظومة مؤسساتية استعبدت مواطنيها وقررت أنها صاحبة الحق في كل شيء حتى الحق في الحياة، وتمادت في غيها حتى توحشت وأصبحت غير قابلة للاستئناس، فقد أصبحت الدماء طريق الحياة لهم والقتل متعة معلنة والتعذيب هواية الجميع؛ ولا زال البعض يحاول إعادة ترتيب المشهد ليصل إلى نتيجة بضرورة الحفاظ على بنية السلطة وأن “الوطن” لا يحتمل.
حقا إن الوطن لم يعد يحتمل ولكنه لا يحتمل هؤلاء القتلة المجرمين الذين لا يشاهدون إلا أنفسهم على هذه الأرض التي رأت من الظلم ما لم تره أرض أخرى؛ لم يعد يحتمل كل هذا البؤس الذي يملأ أجنابها.