العدالة في اللغة هي الاستقامة، والعدل هو المتوسط في الأمور من غير إفراط في طرفي الزيادة والنقصان، واصطلاحا ملكة أي صفة راسخة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة.
ويقول أرسطو إن كل الفضائل تتلخص في التعامل بعدالة. ويقول الإمام بن تيمية: “العدل نظام كلِّ شيء، فإذا أُقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة”.
فهناك اتفاق بين كافة الحضارات تقريبا على أن العدل قيمة حاكمة في حياة الأمم؛ بل وأكدت على ضرورة احترام قيمة العدل حتى لو كان الثمن الهزيمة كما قال إبراهام لنكولن إن “احتمال هزيمتنا في أي نزاع، يجب أن لا يثنينا عن تأييد القضايا التي نؤمن بأنها عادلة”.
مع هذا التمجيد الكبير لقيمة العدل؛ إلا أننا نجد أنها القيمة الأقل احتراما في واقعنا سواء على المستوى الشخصي للكثير منا أو حتى على مستوى الأنظمة والدول، فلم تصبح قيمة العدل هي المحركة لنا ولكنه القانون وهو ما يكتبه الأقوى وصاحب السلطة؛ لقد انحرفت القوانين عن العدالة وأصبحت إحدى الأدوات الرئيسة لاستغلال لأصحاب القوه.
فعلى مستوى العالم أصبح القانون الدولي هو وسيلة لفرض مفاهيم الأقوى وانفصل العالم إلى واضعي القوانين التي تحدد شكل القوة وتوازناتها؛ وبين المرغمين على اتباعها، وضاعت العدالة تحت مقصلة نصوص القانون، وعلى المستوى الأقل داخل الدولة الواحدة وخاصة الاستبدادية منها يصعب أن تجد أي مظهر من مظاهر العدالة وتصبح القوانين هي أساليب لتنظيم المجتمع للحفاظ على نمط السلطة دون أي اعتبار للعدالة.
ونعود للسؤال بعد عرض مبتسر للمفهومين؛ العدالة والحرية؛ عندما تريد بناء مجتمع أيهما أولى بالرعاية؟ هل تكون الحرية أو العدالة أم أن بإمكانك أن تتحرك بهما معا؟
لا أعتقد أننا نستطيع الإجابة علي هذا السؤال قبل تحديد نمط السلطة أولا؛ فهي التي تحدد الأوزان النسبية لكل القيم؛ ونمط السلطة نابع بشكل كبير من الأفكار التي أنتجت هذا النمط.
فالحكم الديني الذي حكم أوروبا في العصور الوسطى احتكر الحقيقة؛ واحتكر معها السلطة والثروة ولم يعد لأحد صوت وربما وجود، وبالتالي غاب المحوران معا؛ فلا حرية ولا عدالة. وعند انهيار النموذج الكنسي اندفع الجميع بحثا عن الاثنين معا؛ الحرية والعدالة؛ وانقسمت الأفكار إلى إعلاء إحدى القيمتين عن الأخرى كقيمة حاكمة لشكل المجتمع.
وفي دراسة قيمة للدكتور محمد فتحي القرش بعنوان “العدالة والحرية بين المفهوم الإسلامي والمفهوم الغربي المعاصر” أكد أن المجتمعات الليبرالية أعلت قيمة الحرية بمفهومها المبتور على حساب العدالة مما أدى إلى انهيار مفهوم الحرية ذاته بحالة انسحاق للكثير من سكان العالم؛ بينما أعلت المفاهيم الماركسية قيمة العدالة على حساب الحرية وألغت الحرية بشكل شبه كامل؛ مما أدى إلي القضاء على كليهما معا، فالنموذجان فشلا – على المستوى الكلي وأحيانا كثيرة على المستوى الجزئي- في تحقيق أي من المفهومين؛ إلا لو كان تعريفنا للحرية هو كسر باقي القيم وتعريفنا للعدالة هو احترام نصوص القانون.
ويبدو أن القول المأثور “من العدل أن يكون الإنسان حرًا، كما أن الحرية لا تكتمل إلا بالعدل” قولا حاكما؛ فهما قيمتان حاكمتان لا سبيل لترك إحداهما على حساب الأخرى. ويضيف الكاتب أن نماذج السلطة الدينية الكنسية الطابع والمستبد العادل والليبرالية الحديثة هي نماذج لا تعبر عن سيادة العدل والحرية وتحطم ذلك القول المأثور وأُضيف عليه أن هذه النماذج الثلاثة هي نماذج مشوهة للسلطة التي أراها العامل الحاسم في التوازن بين المحورين الرئيسين لبناء أي مجتمع.
لا زال السؤال يراوح مكانه ولا زلنا ندور حول إجابة لم وربما لن ندركها بشكل حاسم؛ ولكن هناك نموذجا للسلطة مختلفا عاش بيننا ولكن لم نستطع حتى الآن استخراج شكلا متماسكا له ألا وهو نموذج الحكم في المجتمع الإسلامي.
من أهم الاختلافات بين النموذج الإسلامي والنماذج الأخري هو وجود إطار حاكم للمفاهيم والقيم ناتج عن وجود نص يلتزم به المجتمع الإسلامي يستخرج منه المفاهيم؛ وهذا العامل غير موجود داخل النماذج الإخري فيقوم العقل بتعريف المفاهيم والقيم بشكل مطلق؛ لذا فصورة القيم بالعقل الجمعي للنموذج الإسلامي مقارنة بالنماذج الأخري مختلفة ربما لدرجة يصعب أن يفهم كل منها الآخر ويقتنع به.
ونتيجة لوجود تلك الأفكار الضابطة للقيم؛ كان هناك توازنا في فترات قوة نموذج السلطة بين القيمتين وهي فترة الخلفاء الراشدين ونموذج السلطة هنا لا يعني شكلها ولكن يعني المضمون في التوازن الدقيق بين قوي المجتمع ورأس السلطة والتي أدت إلي مجتمع حر يتمتع بقدر عال من العدالة.
وعندما انحرف شكل السلطة بدأ التشوه؛ وكلما زاد الانحراف زاد التشوه وعندما انتهي النموذج تماما بعد تشوهه الكامل انتهت القيمتان من المجتمعات الإسلامية وبدأنا في البحث عنها في النماذج الأخري التي أري أنها لم تحققهما بل وقتلتها معا.
إن السؤال حول أولوية الحرية أم العدالة هو ناتج حصارنا داخل المفاهيم والنماذج الغربية وعدم قدرتنا على صناعة نموذج يحمينا من صراع الثنائيات الغير متناقضة داخل نموذج ربما لو حاولنا صناعته يمكننا أن نبني عدالة تحمل حرية حقيقية.
لذا فالسؤال الذي يجب أن نسأله ليس هو السؤال الموجود في عنوان المقال ولكن السؤال الأكثر دقة ما هو نموذج السلطة الذي يحقق العدالة التي تنتج الحرية بمعناها الذي ذكره لنا ربعي بن عامر وتنتج العدالة التي علمها لنا عمربن الخطاب رضي الله عنه؟.