بالتأكيد هناك عدد لا يحصى من المحاولات للإجابة عن هذا السؤال؛ وبالتالي ليس الهدف من هذه الكلمات إيجاد إجابة عن هذا السؤال؛ ولكن هي محاولة للتساؤل أكثر منها محاولة للإجابة وهذا لعدة أسباب سأحاول إيضاحها إن استطعت.
تعرف الحرية في معجم المعاني الجامع بأنها الخلُوص من الشَّوائب أَو الرقّ أَو اللُّؤْم وأيضا حالة يكون عليها الكائن الحيّ الذي لا يخضع لقهر أو قيد أو غلبة ويتصرّف طبقًا لإرادته وطبيعته. واحتوى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قيما راقيه لمفهوم الحرية في الفكر الغربي ولهذا؛ مثلت الحرية مفهوما هاما داخل الحضارة الغربية؛ فهي تحرر من قيود السلطة “أو هكذا تبدو” أو تحرر المجتمع من القيود الطبقية في الفكر الماركسي وهي من وجهة نظره لا تتحقق إلا بالثورة الشاملة.
وحاول منظرو الفكر الإسلامي صياغة مفهوم للحرية ولهم تراث في هذا المجال؛ والملاحظ أن محاولة تأطير المصطلح لم تظهر بقوة إلا بعد التأثر الكبير بالفكر الغربي وسيطرته على مجمل العقل العربي والإسلامي. وغياب مناقشات فكرية حول الحرية قبل تدمير المجتمعات الإسلامية سواء من فساد الداخل أم الاجتياح الغربي لا يعني عدم وجودها ولكن ربما كانت بمفهوم مختلف أو أنها موجودة في نمط معين لا يتوافق مع المفاهيم الحديثة لها.
إن تصاعد الحديث عن الحرية مرتبط بزيادة سيطرة السلطة المركزية للنظام الحاكم لكل ملفات المجتمع؛ وهذا كان أحد أهم مظاهر نظام الحكم الديني في أوروبا في العصور الوسطى، وكان أكثر مظاهر الثورة الفرنسية قوة هو تدمير سلطة الكنيسة والملك الذي يستمد سلطته مباشرة من الإله، والثورة الفرنسية هي إحدى المقدمات الكبرى للنموذج الغربي الحالي؛ وربما لم يظهر هذا المفهوم في التراث الإسلامي بكثرة لغياب تلك السيطرة المركزية الشاملة على المجتمع ما سمح له بقدر عال من الحرية في الكثير من الملفات ما جعل الحديث عنها محدودا.
ما يهمنا الآن أن بداية صياغة مفهوم للحرية داخل الفكر الإسلامي سيبدأ فور تحررنا الفكري من المقدمات المفروضة علينا فرضا والناتجة من حصارنا داخل المفاهيم الغربية للحرية؛ وهذا لأن بناء السلطة في المجتمع الإسلامي مختلف ربما بشكل لا يمكن تلاقيه مع النموذج الحالي للسلطة.
وبنظرة عامة إلى ما أدى له الشكل الحالي للسلطة على مفهوم الحرية؛ فشكل السلطة وليست المعاني المكتوبة هي من تحدد الكثير من المفاهيم “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”؛ نجد أن ثلث العالم يعيش في فقر مدقع وثلثه الآخر يقاتل من اجل الهروب من الفقر؛ والغالبية الباقية دخلت في دوائر من الانسحاق حتى داخل المجتمعات الغربية وكل هذا من أجل نسبة ضئيلة تستحوذ على معظم ثروات العالم؛ نجد الرق بمعناه المباشر يعود وبقسوة شديدة؛ ففي عام 2002 أذاعت محطة سي إن إن الأمريكية تقريرا صادما يتحدث عن مليوني إمرأة وطفل يتم بيعهن كعبيد سنويا وأن الأطفال في بنين وتوغو ومالي يباع الواحد منهم بخمسة عشر دولارا.
فحتى العبودية في نموذج الحرية الجديد أصبحت ليست فقط تجارة بحرية البشر ولكنها تحولت لتجارة بالأعضاء وبقطع الغيار البشرية. ولا ننسى عشرات الملايين من الأفارقة وسكان أمريكا قبل غزوها الهمجي من أوروبا الذين تحولوا لمجرد أدوات لصناعة الثروة للبطل الغربي.
وفي مقارنة سريعة لطبيعة الرق حتى في الفكر الإسلامي والذي حمل داخله نمط إنهائه؛ نجد شكلا راقيا في حديث الرسول صلي الله عليه وسلم عندما قال “إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليكسه مما يلبس، ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كان ما يغلبه فليعنه” رواه أبو ذر، متفق عليه؛ فشكل العبودية تحول من الأقنان إلى العمال إلى المطحونين في دوائر صناعة السلطة والثروة؛ وأصبحت الحرية بعد التطور الهائل الحادث في العالم هي القدرة على تحطيم القيم؛ فقد استطاعت أفكار النيو ليبرالية إبعاد مفهوم الحرية عن كل القيم الرائعة التي تحدث عنها الجميع وركزت فقط على تدمير القيم وهذا للحفاظ على نمط السلطة الذي يحقق لها منافعها ومصالحها التي هي بالضرورة ضد مفهوم الحرية الحقيقي.
في الإسلام الحرية الكاملة هي العبودية الكاملة لله وهي التي تحقق للإنسان القدرة على الخروج والتمرد على كل سلطة –وليس نظاما– ينقص من قدرته على ممارسة حريته الحقيقية التي هي قطعا محكومة بعبوديته لله. وإن أي خروج عن العبودية لله هو دخول في مساحات عبودية السلطة سواء سلطة الطبقات الاجتماعية أم سلطة الدولة.
لذا نجد أن الحرية لها شكل مختلف داخل الحضارة الإسلامية ونحتاج للحديث عن العدالة في المقال القادم قبل أن نحاول طرح الأسئلة.