يُعرِّف ديفيد إيستون النظام السياسي على أنه “مجموعة من الظواهر التي تكون نظاما فرعيا من النظام الاجتماعي الرئيسي، ولكن هذه الظواهر تتعلق بالنشاط السياسي في الجماعة باعتباره جزءا من حياة هذه الجماعة، وهي تلك الظواهر الخاصة بالحكم وتنظيمه والجماعة السياسية والسلوك السياسي”، ويعرف بوتومور النظام السياسي على أنه “النظام الذي يختص بتوزيع القوة في المجتمع”.
وهناك تعريفات متعددة تدور كلها حول مفهوم يشير إلى أن النظام السياسي هو محاولة لإدارة السلطة والقوة والثروة.
أما الدولة فيدور تعريفها حول أنها “مجموعة من الأفراد تستقر على إقليم معين تحت تنظيم خاص، يعطي جماعة معينة فيه سلطة عليها تتمتع بالأمر والإكراه”؛ فهي تتكون من عناصر الأرض والشعب والسلطة وسيادة تلك السلطة.
فالنظام السياسي ينتج عن وجود كتلة ما في موقع السلطة داخل الدولة يمكنها باستخدام القوة الممنوحة لها بحكم موقعها في السلطة فرض نمط معين من المخرجات في صورة قرارات وتنظيمات لمؤسسات الدولة في إطار القواعد الثابتة التي اتفق المجتمع عليها.
إن السلطة التي تُمنح للنظام السياسي ممنوحة له من الدولة وهي ليست المؤسسات طبقا للتعريف السابق، بل هي كل المكونات من الشعب الذي يمتلك الأرض؛ بل إن المؤسسات هي إحدى منتجات النظام السياسي.
ويبدو أن المشكلة التي نعاني منها هي مشكلة الاستبداد والاحتلال الطويل الذي جعل المؤسسات ترى أنها الدولة، واستطاعت تلك المؤسسات تأميم كل العناصر الأخرى؛ فقد أممت الأرض لصالحها ثم أممت الشعوب باعتبارها ملكية خاصة لها؛ وكذلك أممت السلطة وأصبحت ترى نفسها هي الدولة؛ وحدث هذا التشوه أيضا في النظام السياسي الذي أصبح لا يرى نفسه خارج مؤسسات الدولة.
وهناك مأساة أخرى غير التأميم حدثت كنتيجة مباشرة، فقد رسخ الاستبداد والاحتلال حالة الانفصال بين المؤسسات التي لم تنتج عن تطور من داخل المجتمع؛ بل نتجت عن إقحامها عنوة بداخله وفي مكان أعلي من المجتمع ومنفصلة عنه، بالتالي أصبحت المؤسسات ترى نفسها أنها صاحبة كل شيء ولا يجب أن يتم شيء سواء في المجتمع أو في الأرض أو في السلطة إلا تحت وصايتها الكاملة.
تجب الإشارة إلى أن المجتمعات “المتقدمة” أو بمعنى أدق الدول المتقدمة في هذا النموذج لا تعاني – على الأقل حتى وقت قريب مضى – من حالة الانفصال الكبيرة عن المجتمع؛ فهي ناتجة بشكل كبير من داخله ولهذا بقيت الدولة موجودة بأجنحتها الثلاث الأرض والشعب والمؤسسات الناتجة عن سلطة الشعب؛ وبقي النظام السياسي هو معبر إلى حد كبير عن المجتمع ويعمل بداخله.
أما المناطق التي نعيش فيها والتي يصعب وصفها بالدول فهي تعاني من تفكك الدولة بالمفهوم السابق ذكره؛ فلم يعد هناك شعب يشارك في السلطة بكل أشكالها حتى على المستويات الصغرى من العمل المهني والنقابي؛ ولا توجد أرض يملكها هذا الشعب بل أرض يعيش عليها تمتلكها جهة ما داخل “المؤسسات”؛ فلا يوجد دوله بالمعنى السياسي ولا القانوني ولكن توجد أرض نعيش عليها أشبه بالإقطاعيات القديمة ولكنها إقطاعية بحجم دولة.
كما أن تلك المؤسسات اندمجت تماما داخل النظام السياسي وأصبحت لا ترى فارقا بينها وبين النظام؛ والتعبير الدقيق لتوصيف تلك الحالة هو ما ذكره قائد الانقلاب العسكري في مصر أن مصر لا يوجد بها نظاما سياسيا إنما يوجد بها دولة هو تأكيد على غياب الفارق في أذهان “المؤسسات” الموجودة في مصر بينها وبين النظام؛ ويؤكد على الصورة الكاملة من الاحتكار الكامل للسلطة من تلك المؤسسات.
عندما قالت الشعوب العربية الشعب يريد إسقاط النظام، لم ترها المؤسسات هكذا؛ أولا لأنهم قطعا لا يرون أنفسهم جزءا من الشعب فبالتالي كان ظهور هذا الشعار هو إعلان للعداء لهم، وثانيا أنهم لا يرون فارقا بين النظام والمؤسسات التي يعتبرونها هي الدولة ولهذا اعتبروا قطعا أن من يريد إسقاط النظام يريد إسقاط الدولة.
إن اختلاف مفهوم الدولة بين المجتمع الذي لم يكن يدري أن حالة الاندماج الكامل بين المؤسسات والنظام السياسي بهذه الدرجة من القوة؛ وبين أصحاب السلطة داخل المؤسسات أدى إلى هذا الصدام العنيف الحادث في سوريا وليبيا ومقدمات متعددة للصدام في مصر وغيرها من البلدان العربية.
إن هذا الالتصاق الكامل يضعنا جميعا في حيرة؛ فعمليا لم تعد هناك دول في أراضينا وبلداننا لنخاف من إسقاطها أو على الأقل أصبحنا دولا فاشلة في أكثر الأحلام هدوءا؛ فلا معنى لإسقاط ما هو غير موجود، كما أن “النظم” السياسية العربية المستبدة متحصنة “بمؤسسات الدولة” واندمجت معها اندماجا كاملا بعد فصلها تماما عن المجتمع.
فعلى الجميع أن يدرك أن جملة الشعب يريد إسقاط النظام تحمل الكثير من المعاني سواء داخل عقول أصحاب السلطة المدركين لطبيعة الالتصاق الجيني وبين الكثير من الكتل المجتمعية التي أصبحت أيضا تدرك ذلك.
وأرى أننا مهما كانت التعقيدات فعلينا الاستمرار في ترديد الشعب يريد إسقاط النظام والعمل على ذلك ليس فقط لصناعة حياة كريمة واستعادة السلطة والأرض والثروة؛ ولكن لإعادة بناء المجتمع بعد فترة الاغتراب الكبيرة.
نهايةً؛ أنا أريد إسقاط النظام.