الأخ الأكبر.. المصطلح الأشهر في رواية جورج أوريل المعنونة 1984، فهي صورة متكاملة للاستبداد المطلق، فهناك الأخ الأكبر الذي يعرف كل شيء، ويتابع الجميع، ويغير الثقافة والتاريخ بل واللغة، ليتحكم بشكل كامل في أنفاس الناس، وحتى في أفكارهم.
عند قراءة الرواية تشعر بأن العمل يقترب من الخيال، وأنه من الصعب بل يكاد من المستحيل أن يحدث ذلك، فكيف يقبل الناس بهذا القدر الهائل من القهر، بهذا القدر من التحكم والتنظيم؟
قد لا يستطيع العقل الإجابة، ولكن الواقع استطاع. فنحن نعيش في مصر وبلدان أخرى عصر الأخ الكبير، نرى ذلك “الرجل” الذي يريد التحكم في كل شيء حتى الضمير، فخرج علينا مع بعض “النخب” المصرية –ويا لها من نخب!- في لجنة لتنمية الضمير، وكأنه يعلن عن شرطة الفكر التي ظهرت في رواية أوريل أيضا.
ليس الغريب فقط في دعوة “الرجل”، فهو حقيقة يرى في نفسه ما يقول، فهو مخلص البشرية والفيلسوف الملهم، وصاحب الرؤية الكاملة، هو يرى في نفسه ذلك دون أدنى شك، ولكن الأكثر عجبا فيمن يسيرون في ركابه من “النخب”، ثم يخرجون علينا بمصطلحات “نخبوية”، يبررون جريمتهم الفكرية والأخلاقية.
يالها من نخب قتلت فينا كل تقدير لهم، ما كان أبدا أن تزيحه جبال، ولكنها إرادة الله التي أبت إلا أن تنير لنا الطريق، وتعلمنا وتهدينا إلى الصواب.
الأخ الكبير يبدو أنه حلم الكثيرين ليكونوا مثله، ليس فقط “الرجل” الجالس على عرش فرعون الآن، ولكننا نراه متجسدا في الكثيرين. ومن لم يستطع منهم أن يكون الأخ الكبير، اكتفي أن يكون تابعا له لعله في يوم ما يُسمَح له أن يقوم بهذا الدور.
نرى الأخ الكبير في “ذلك الفتى” الذي يخلط الحق بالباطل، بل ويقلب الباطل حقا، فلا ينبغي أن نرى إلا ما يرى، وعلينا أن نُكذِّب أنفسنا، وننسى ما عشناه من أجل الأخ الكبير الجديد.
وعلينا أيضا أن نرى الأخ الكبير في ذلك القابع في فينا ينشر لنا إبداعاته في الفضاء الإلكتروني، لنصدق ما يقوله لنا، وعلينا أن ننسى جرائمه، لأن الأخ الكبير لا ينبغي أن يحاسب.
المأساة ليست في الإخوة الكبار فقط، ففي كل زمان وفي كل مكان ستجد تلك النماذج البائسة التي تحاول الاقتراب من مرتبة الإله، ففرعون ليس شخصا فقط، ولكنه نموذج دائم لمن يريد تنميط العالم كما يري، ويؤمن إيمانا مطلقا أنه توأم الحق المبين، ويحمل قدرا هائلا من الاحتقار ربما للجميع.
المأساة الأكبر في أتباع الأخ الكبير، والمأساة الأعظم من غير أتباعه في من يتركون له مساحات ليمارس فيها دوره الذي يطمح إليه ويعشقه. فإذا كنا نتفهم وجود ذلك الشخص الحتمي، ونتفهم أيضا دائرة الأتباع وهم نماذج مصغرة ضعيفة غير مكتملة جينيا من الأخ الكبير، ولكن غير المفهوم هو السبب الذي يجعل من غير مريديه أن يترك مساحة ينفذ منها! ما هو السبب الذي يجعل البعض يجنح إلى استبدال أخ بأخ؟ ما الذي يجعلنا كذلك؟
ربما كنا ضعافا وضعافا جدا، ولكن سيأتي اليوم الذي نكون فيه أقوياء، تلك سنة الله التي لن تتبدل، فلِمَ إذا نحطم المفاهيم والمعاني في عقول وأرواح أجيال ربما تفعل ما لم نفعله؟
إن الحق أحق أن يتبع، حتى ولو كان مؤلما، إن احترام الأفكار والمفاهيم والحفاظ عليها وحمايتها من التشوه أهم ألف مرة من الإحساس بانتصار زائف.
سينتهي الأخ الكبير، ويسقط من ذاكرة التاريخ، ومهما كانت الكوارث والجرائم التي فعلها تستطيع الشعوب والمجتمعات الفتيَّة التي تمتلك قدرا حقيقيا من القيم أن تعيد بناء نفسها مهما كانت مدمَّرة، فتلك أيضا سنة من سنن الله، فنحن على الأقل علينا ألا نشوه الأفكار لأي سبب كان.
فهناك من هم على طريق إنهاء تلك المأساة التي تغمر أرض مصر منذ فرعون وإنهاء نموذج الأخ الكبير إلى غير رجعة.