تتعرض كل المنطقة لسباق محموم من أطراف إقليمية ودولية عدة كي يعاد تشكيلها، من الطبيعي أن تتحرك القوى الدولية الاستعمارية التي لا يمكنها البقاء ولا الحفاظ على مستوى الرفاهة الذي تتمتع به القوى العاملة عندهم دون السيطرة على مصادر الثروة بالعالم، ولا داعي للتعجب من وجود قوى إقليمية تسعى في هذا الاتجاه أيضا. فالخطأ من البداية في تعريفها المراوغ؛ فهي ليست قوى إقليمية ولكنها أذرع قوى الاحتلال.
ولا ينبغي أن نستمر في إطلاق التوصيفات المخادعة التي تصنع صورا ذهنية بعيدة عن الحقيقة؛ فلا توجد قوى إقليمية الآن، إلا من يقاوم الاستعمار وذيوله مهما تجملت القوى التي تدعي أنها إقليمية؛ فهي قوى معادية بلا شك.
هناك عمليات كبرى حدثت لتدمير العقلية العربية وإعادة تصوير وتنظيم العالم داخل أذهاننا بشكل مختلف، وبالتالي يحمل العقل العربي كما كبيرا من المتناقضات تحتاج لعمليات جراحة مؤلمة؛ هذه العمليات الكبرى جعلتنا نتعايش بل ونستطيع صناعة المنطق الذي يجمع المتناقضات في نسق فكري “منطقي”. وهناك طريقتان للخروج وطريقة للبقاء علمتنا إياها الثلاثة مشاهد.
مشهدان خلال شهر واحد ومشهد آخر قديم نحتاج إلى التوقف أمامهم كي نحاول الخروج من العالم الموازي الذي صُنع لنا خصيصا، المشهد الأول للجندي عمر دمير بالقوات الخاصة بالأمن التركي وقد أصبح رمزا كبيرا للشعب التركي، عمر دمير قام بإطلاق الرصاص مباشرة على أحد القادة الانقلابيين عند محاولته السيطرة على مركز قيادة العمليات الخاصة؛ أحاول أن أرصد ما كان يدور في عقل الشهيد عمر قبل إطلاقه الرصاص على الخائن؛ فيم كان يفكر؟ بالتأكيد هناك مقدمات كثيرة جعلته دون تردد يطلق الرصاص على الجنرال الخائن؛ في تلك اللحظة لم تستطع تلك المقدمات أن تجعله يتردد لحظة واحدة بل على العكس كانت حافزا له على أن يطلق الرصاص على الخائن.
هذه المقدمات هي التي جعلت النساء في شوارع تركيا يحملن العصي في إشارة إلى أنهن سيقاومن بما يمتلكون حتى لو كانت عصاة خشبية أمام الدبابة؛ هي التي جعلت الرجال والشباب يواجهون الآليات بكل ما يمتلكون من أدوات للمقاومة؛ وهي التي جعلت قوات الشرطة تستطيع بأسلحتها الخفيفة نسبة إلى أسلحة الجيش أن تقاوم الانقلاب العسكري وتهزمه، وهي التي جعلت الشعب التركي يرفض دفن الخونة في مقابره ودفنوهم في مقابر خاصة أطلق عليها مقابر الخونة.
إن هذه المقدمات كانت صناعة وعي مقاوم وبالتالي شعب مقاتل؛ وبالتأكيد لن تكون هذه مهمة الحكومات العميلة ولا مهمة من يدير تلك الدمى الموجودة على رأس السلطة في بلادنا؛ بل هي مهمة كل القوى الحقيقية التي تؤمن بضرورة التحرر من عقود من التدمير الممنهج والاحتلال بالوكالة.
المشهد الثاني للطفل عمران الذي أثارت صورته تعاطفا واسعا مع أزمة الشعب السوري؛ تماما كما فعلت صورة الطفل الغارق على السواحل التركية منذ أشهر، ولا أظن أنها ستفعل أكثر من ذلك، وما يهمنا في هذا السياق هو الحالة الغريبة بالنسبة لطفل في هذا العمر؛ فقط يجلس لينظر بعين مرت بتجارب كثيرة وبصمت كامل ويمسح الدماء عن وجهه وينظف يده في كرسيه، هذا المشهد العجيب يشير إلى لا مبالاة الطفل عمران بأي شيء مما يحدث؛ هذا إما اليأس الكامل أو البأس المتنامي في أطفال الشام؛ وأراه الثاني.
لقد عانى الشعب السوري على مدي خمسة أعوام من دموية و محاولات تدمير شاملة لكل حالة المقاومة داخل سوريا؛ لم تنجح المنظومة الدولية في كسر إرادة الثورة ولم تنجح المقاومة أيضا حتى الآن في تدمير الوحش الهائل الذي تحاربه؛ ولكن مشهد عمران داقنيش يدل على أن المقاومة تستطيع أن تبني الأفكار في عقولنا التي أفسدتها نظمنا العميلة؛ لم تستطع سوريا أن تفعل مثل تركيا؛ ففي تركيا قيادة تنتمي للمجتمع وهي جزء منه؛ فأنتجت شعبا مقاوما، أما سوريا فيحكمها عملاء لا ينتمون لمجتمعهم؛ فدفع الشعب السوري مئات الآلاف من الشهداء وملايين المشردين كي نشهد لا مبالاة عمران التي تدل علي انهيار ما بنته السلطة الفاشلة وأننا على مشارف شعب مقاوم آخر على الطريقة التركية ولكن بثمن غال وغال جدا.
المشهد الثالث القديم وهو مشهد المصور أحمد عاصم الذي استطاع تصوير أحد الخونة وهو يقتل المعتصمين عند دار الحرس الجمهوري فقام الخائن بقنصه وهو يصوره. الآن وبعد ثلاث سنوات يبدو أن الأمور لم تتغير فأحمد عاصم لقي ربه شهيدا ومن قتله يمارس هوايته في القتل أحيانا بكل تأكيد وربما حصل على ترقية أو بعثة تشجيعية على بطولته النادرة.
إن النجاح والفشل ليس وجه المقارنة؛ فلم نستقر بعد على معيار واضح للحكم؛ فستجد من يدعي بنجاح التجربة التونسية وهو من يؤمن بجدوى الاستقرار؛ وهناك من هو مؤمن بأنها أسوأ نتيجة في الربيع العربي وأن وضعها أسوأ من الجميع وهذا عندما يكون الوزن النسبي للثورة بمفهومها الشامل مرتفع؛ لذا فمجال المقارنة هنا هو تقييم رد فعل الشعوب الثلاث.
الشعب المقاتل والذي يحكمه قيادة تنتمي إليه استطاع أن يكسر أحد أشرس الانقلابات العسكرية، والشعب الذي يقاوم بشراسة صنعت المقاومة أجيالا دمرت سنوات من تغييب العقل وتدميره، لا يظن أحدا أن المصريين لا يمتلكون جسارة الأتراك ولا شجاعة أهل الشام – أقصد المصريين الأحرار بالتأكيد – على العكس؛ فما رأيناه في شوارع مصر يدل على عكس ذلك.
إذن فالسؤال: لماذا تراجعت المقاومة وتراجعت روح المقاومة في الشارع المصري؟ علينا البحث عن إجابة صحيحة، فهي ليست قلة في الرجال ولا ضعفا في العزيمة، وحتى نجد الإجابة؛ يحاول البعض الإبقاء على روح المقاومة وإعادة إشعالها في الشارع المصري وسط حرب هستيرية من أطراف عدة لذبح الثورة من الوريد إلى الوريد، هي محاولة حقيقية حتى نلحق بمن سبقونا على خط المقاومة ؛ الأتراك وأهل الشام ولكن بطريقتنا الخاصة.