الحروب أحد أهم المظاهر التاريخية الكبرى التي يمكن بها وصف التاريخ والحضارة، وهي المرآة الأكثر وضوحا لإدارة السياسة والسلطة، والحرب كانت هي قاطرة الأفكار و”التطور” وصانعة الإمبراطوريات والممالك الكبرى.
فالحربان الأوربيتان الأكبر كانتا في الأساس صراعا على الأفكار ووصل الصراع لذروته في بدايات القرن العشرين، تختلف الآراء حول الحرب وربما يتفق الجميع على ضرورة تجنبها لما ينتج عنها من كوارث كبرى تستمر لأجيال، ولكن يصعب على أحد إيقافها بقرار فهي كما قالوا عنها “الحب والحرب سهل إشعالهما وصعب إيقافهما”؛ ولكن التاريخ والواقع يخبرنا أن الحروب – حتى وإن كانت قاسية جدا– فهي جزء وركيزة لا يمكن تجاوزها مهما انتقدناها بل ومهما لعنها الكثيرون.
لم تشفع الملايين التي قتلت في الحروب الأوروبية الكبرى عند قادة العالم في تلك الفترة لإيقاف المذبحة المتبادلة؛ ولم تتوقف الحرب الأولى إلا في الأربعينيات بفرض الأمر الواقع الجديد على القوى الإمبراطورية القديمة، سواء العثمانيون في العشرينيات أو الألمان واليابانيون في الأربعينيات، فهي حرب واحدة كبرى ولكن على فصلين كبيرين.
قال “سيجموند فرويد” عن زمن تلك الحرب إنه “هو زمن التحرر من الوهم”، فهو يستطيع أن يظهر أمورا بشكل أكثر وضوحا بل وربما يكون واضحا بشكل مفضوح تماما حيث يصعب على أي طرف أن يخفيه؛ ففي الحرب تجد أكثر العقول نضوجا – أو هكذا كنا نظن – تنسحب خلف ضلال بيِّن وأكثر الأشياء قداسة تتحطم تحت ضربات الحقيقة.
والحرب بطولات وأمجاد أيضا بالرغم من الآلام والصعاب؛ فحوائط حلب التي شهدت على حجم الدمار الكاسح شهدت أيضا تلك العبارات الرومانسية وأحلام العودة؛ فالحوائط والشوارع ليست مجرد أشياء مادية فقط ولكنها ساحات لكل مشاعر الغضب والعناد والإصرار وتشارك ساكنيها أحلامهم وآمالهم.
كانت العبارات التي كتبت على جدران حلب ومن قبلها بغداد ومن زمن بعيد ستالينجراد وبرلين وباريس والقدس هي دلالات على استمرار الوجود، فأهل تلك البلدان قد يغادروا بعضا منها تحت أمطار القذائف ولكن يُذكِّرون تلك الشوارع أنهم عائدون، وتبقى باقي المدينة تحارب؛ فالحروب كما تصنع الموت فهي تصنع المشاعر الصادقة العميقة.
ففي ستالينجراد سيطر الألمان على ما يقرب من تسعين بالمائة من أراضيها إلا أن العشرة بالمائة المتبقية استعادت كل المدينة بعد عشرات بل ومئات الآلاف من القتلى وعشرات من قصص البطولة؛ والآن أصبحت ستالينجراد رمزا للإرادة والمقاومة؛ وكذلك باريس التي سقطت في يد الألمان عادت لأصحابها ويسردون حولها بطولات كبرى من أهلها.
لا أعلم يقينا ما هو حجم خسارة الأرض في حلب إلا أن ما أعلمه يقينا أن المدن لا تسقط ما دام بها من لا يزال يقاتل؛ وما أعلمه يقينا أيضا أن في كل مدننا المحتلة بغداد والقاهرة ودمشق وحلب ومئات المدن غيرها من كابول إلى الدار البيضاء ومن سيراييفو إلى عدن بها الملايين من رجال مثل رجال حلب التي لم تسقط بعد مثل كل تلك المدن، وأن زمن الحرب الذي نحيا به قادر على تحريرنا من كل الأوهام العميقة التي امتلأت بها عقولنا وقادر على إنتاج تلك المشاعر الصادقة العميقة التي تصهرها نيران المدافع وزخات الصواريخ التي تمطر سماءنا.
ويخلط البعض بين الانسحاب من الحرب وبين إنهائها؛ فكما تصنع الحرب الموت الذي لا مفر منه فإنها تصنع البطولة التي توأد في مهدها عند الانسحاب، ويكمل بنيانها إذا انتهت الحرب مهما كانت النتيجة.
فعندما دُكَّت مدن ألمانيا الكبرى ومدن اليابان انتهت الحرب؛ ولكن كانت تلك المشاعر العميقة وبناء البطولة قد اكتمل وعاش الألمان واليابانيون سنوات شديدة الصعوبة ما كانوا ليعبروها إلا بتلك الروح المتولدة عن المقاومة التي خاضوها حتى الرمق الأخير والوصول بالحرب الحتمية التي فرضت على العالم لنهايتها، فالهزيمة العسكرية أقل وطأة بألف مرة من الهزيمة النفسية وصناعة أجيال مهزومة قبل أن تخوض حربها.
ونحن الآن في بدايات حرب شاملة فرضت علينا وتأخرنا كثيرا في الاستعداد لها؛ وحتى نخرج منها كما خرج غيرنا؛ علينا استكمالها، ففي أسوأ الحالات ستكون هزيمة مرحلية مهما كان حجمها ولكن تلك الهزيمة إن حدثت ستنتج تلك الروح المقاومة التي ستكمل كما فعلت ستالينجراد وبرلين وباريس؛ وستكمل انهيار الأوهام الكبرى التي عشنا بها أجيالا متتابعة ومنها أننا دول تحررت من الاحتلال.
أما التوقف عن الحرب الحتمية والتوقف عن الاستعداد لها بكل ما يمتلك المجتمع من قوة وأدوات وبكل ما يمتلك أفراده من مهارات في كافة المجالات؛ فهي الجريمة التي ستحولنا في يوم ما إلى التلاشي، ولنتذكر أن الجريمة الكبرى في الأمريكتين ضد السكان الأصليين استمرت أربعمائة عام حتى اكتملت، وفي ظل صراع غير متكافئ لم يتوقف فيها أصحاب الأرض عن المقاومة وربما يعودون لها في يوم ما.
عبرت سوريا الحد الفاصل بين احتمالية التراجع وحتمية الاستمرار وكذلك العراق وربما مصر وأصبحت الأصوات التي تنادي بالانسحاب أقرب إلى من يحرث في ماء يظنه حجرا، وأصبحت جدران مدننا تتحدث عنا وستبقى حلب الشهباء هي ستالينجراد الأمة إن صح التعبير ولو أن لكثير من مدننا تاريخا عظيما يضاهي ستالينجراد، تروي سير عبد الكريم الخطابي وعبد القادر الجزائري وغيرهم الكثير عن المدن التي تحارب مع أصحابها.
لقد أسقطت الحرب أسطورة الدولة القومية المستقلة في بلداننا وسقطت أسطورة الجيوش العربية وصعدت أفكار الحرية والمقاومة، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.