لم يكن حوارا واحدا في حقيقة الأمر، بل حوارات عدة مع أصدقاء كثر على فترات متباعدة خلال العام ونصف العام الماضيين. وكلما مر الزمن، كنت أتأكد من حقيقة رياضية؛ ألا وهي أن أي انحراف غير مرئي عن الخط المستقيم والقواعد الثابتة المستقرة، سيكون مصيره النهائي “إذا لم يضبط”، الوصول إلى فجوة هائلة ربما تبتلعنا جميعا.
كانت البدايات بضرورة جمع “الثوار” على أهداف مشتركة، ربما نتنازل فيها عن بعض المكاسب السياسية، وانتهت بضرورة التخلي عن الهوية.
أنظر إلى الجانب الآخر ممن نهرول نحوهم منذ عام ويزيد، ممن يسمون أنفسهم القوى المدنية وأرى على وجوههم ابتسامات النصر؛ فهاهم الآن يحققون ما أرادوا بمشاركتهم في جريمة 3 تموز/ يوليو، ونجحوا في إخضاع البدائل كافة؛ ولئن خدعهم العسكر، فما زال لديهم قطاع من الإسلاميين والثوار يحاولون كسب ودهم، وأصبحوا قبلتهم وملاذهم.
ما أروع ثباتهم على أهدافهم؛ أي عزيمة تلك التي تملأ نفوسهم، إذ يبقون هكذا لا يتزحزحون مليمترا واحدا عن هدفهم الكلي، بعلمنة مصر، بل وعلمنة الإسلام ذاته.
سنوات من المحاولات الفاشلة، ولكنهم ثابتون على هدفهم ومصرون على تحقيقه. صحيح أن أقصى تضحياتهم لا يمكن مقارنتها بأقل تضحيات التيار الإسلامي، ولكنهم في النهاية ما زالوا ثابتين.
على الجانب الآخر الاصطفافي، لا يمكننا وضع الاصطفافيين جميعا في خانة واحدة، وربما أفضل ما في وثيقة واشنطن أنها استطاعت أن تعطينا صورة واضحة عن حجم الفجوة الحالية الناتجة عن الانحراف غير الملحوظ من الكثيرين منذ عام ونصف، والذي تحرك من تنازل سياسي محدود إلى تنازل كلي غير مشروط؛ فالوثيقة بنصها الأول والثاني تحمل روحا عدائية وتجاوزا واحتقارا هائلا ضد المجتمع، وإن كانت الثانية بلغة أكثر مراوغة وأقل تهورا.
واستطاعت أيضا أن تحدد لنا ما هي التوجهات المختلفة داخل المجتمع الاصطفافي فهم ليسوا سواء، فهناك من يدرك منذ البداية الهدف الكلي والنهائي وساهم في صك المصطلح الذي تعرض لانتهاكات جسيمة ولا يزالون مصرين على استخدامه، هؤلاء هم الأخطر وهم بالتأكيد مصرون على تلك الوثيقة بل ويدافعون عنها ومستمرون في ترويجها أو البناء عليها ولن يتوقفوا.
وهناك قطاع آخر أحس فجأة بهول الكارثة وأعاد قياس حجم الانحراف بعد التراكم؛ فنحن لا نرى التغيير الطفيف ولا نشعر به؛ ولكن عند التوقف لحظة والمقارنة بين أول الطريق وآخره سنرى حجم الحيود، الذي أصبح أكثر اتساعا مما يجب فهاجم الوثيقة بقسوة، وهناك من لا يزال ضمن الصامتين الواقفين المنتظرين.
سيبدأ البعض في الاتهام بالمزايدة واحتكار الحقيقة؛ وهذا الاتهام بالمزايدات في هذا الأمر يشبه اتهام المعارضين لكامب ديفيد بالمزايدة على حكمة القائمين عليها.
وسيبدأ عزف آخر حول المعتقلين، والحقيقة أن مصر كلها تحت الاعتقال. وأثبت التاريخ البعيد والقريب، أن النظام المصري لا يجد مكانا للإسلاميين غير السجون سواء قاوموا أم صمتوا، وحلهم الوحيد من وجهة نظر النظام هو الإذعان لوثيقة واشنطن، حتى يبقوا على قيد الحياة، هذا إن بقي منهم أحد.
فآلاف المعتقلين في الستينيات وعشرات الآلاف منذ كامب ديفيد حتى 2011 ومئات الآلاف منذ الانقلاب إلى الآن هو دليل على استحالة الاستمرار في هذه المنظومة القاتلة بالنسبة للإسلاميين، ووثيقة واشنطن ليست نهاية لها، بل هي مقدمة لملايين المعتقلين والشهداء والمطاردين.
إن ما حدث وسيحدث خلال الفترة القادمة هو استمرار العزف على ألحان الهزيمة، ومرة أخرى الإعلان عن الهزيمة مقبول، ولكن تدمير الأفكار بحجة الهزيمة هو جريمة متكاملة الأركان.
في رواية لجارسيا ماركيز ذكر تلك العبارة “عند الجوع لا يوجد خبز سيئ”.. وهي عبارة تظهر على لسان الفقراء وفي وجدانهم؛ وهم ربما يبررون بها الكثير من الأمور غير المنطقية ولا حتى الإنسانية كي يبقوا علي قيد الحياة؛ نعذرهم في ذلك أم لا تلك قضية أخرى.
ويمكننا إعادة صياغة تلك العبارة علي لسان البرجوازية الطامحة، فهي لا تعاني من الجوع، ولكن لها أيضا “معاناتها”، وقد تكون صياغتها لهذه العبارة كالتالي: “عند الرغبة في الرجوع إلى مجال إنتاج الثروة وفي رحاب السلطة لا توجد أفكار سيئة”.
وتلك البرجوازية الطامحة لا تفعل ذلك دون سبب؛ بل هي الرغبة في العودة إلى مجالات القوة والنفوذ التي كانت، ويمكن أن تكون وظيفة أو جامعة أو حتى إلقاء السلام من جيران الشارع؛ فقط حنين إلى مصدر ما للقوة أو للسلطة مهما كان صغيرا، ومنهم من يفعل ذلك بمهارة فائقة في استخدام المصطلحات والأفكار حتى تصبح عودتهم أخلاقية، وربما حتى ثورية.