هناك مفهوم نسبي للفقر طبقا للحالة العامة للمجتمع، فكل زمان له معاييره الضابطة التي تحدد ما هو حد الفقر الذي يقرره المجتمع؛ فالفقر يعرف بأنه عدم القدرة على تحقيق الحد الأدنى من مستوى المعيشة، ومع اختلاف تفسير الحد الأدنى في العقل الجمعي للمجتمع تختلف رؤية كل منهم لحد الفقر، فمثلا لا يمكن مساواة حد الفقر في الدول الاستعمارية بالدول التي عانت من الاستعمار، سواء المباشر أم بالوكالة.
هذا المفهوم النسبي للفقر لا يلغي وجود حد أدنى مطلق لا يُقْبل الهبوط عنه في أي مجتمع، وهذا الحد الأدنى ليس مسؤولية الفرد وحده، بل هو مسؤولية تضامنية مع المجتمع ككل بكل هيئاته ومؤسساته وروابطه.
كما يمكن تعريف الفقر بشكل مباشر على أنه عدم القدرة على الحصول على القدر الكافي من الطعام والذي يؤدي بالضرورة إلى المرض والجهل، فليس من المنطقي- إلا فيما ندر- أن يسعى من يتضور جوعا إلى أن يتعلم، كما أنه من الطبيعي أن ينتج الجوع أمراضا متعددة.
أذكر الآن تلك العبارة الصحيحة وغير الحقيقية “ليس بالخبر وحده يحيا الإنسان” ومدى محاولة زرعها في عقول الشعوب منفردة دون العبارة المكملة لها “وبغير الخبز لا يحيا الإنسان”، فليس هناك من هو أسوأ من يدفعك دفعا للجوع وسط إحساسك بالفخر، فهو يدفعك إلى الجهل والمرض وأنت منتشٍ بروعة الكفاح من أجل قطعة خبز.
فالفقر حقيقة واقعة بشكلها النظري إلا أن إدراكه موضوع مختلف؛ فلا يشكك أحد على أن الإحساس بالجوع والحرمان موجود لدى كل البشر؛ وبالتالي إدراك الحالة الكارثية التي يعيشها ذلك الفقير في مجمتعه مجرد خطوة علي الطريق، فبعد الإحساس بشعور ما؛ يبدأ كل منا في محاولة إدراك أسباب ذلك الشعور؛ هذا كغيره من المشاعر الإنسانية كالفرح والحزن والألم.
هنا ظهرت آلة “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” وبدأت في مقاومة وصول المجتمع الفقير إلى الوعي وإدراك الأسباب الحقيقية للفقر، وبدأت حالة من صناعة مفاهيم مشوهة عن مسؤولية الفقراء عن حالهم، وأن الجوع ونقص الغذاء شيء طبيعي وأن النموذج الحالي لتوزيع الثروة هي عدالة الله في أرضه، وأسَّس لتلك المفاهيم جزء من البرجوازية الموالية للسلطة والتي لا يمكنها إلا أن تعيش في كنفها؛ وهذا الجزء من كافة القطاعات والتيارات.
ففي مصر قامت بذلك كافة وسائل المعرفة بداية من المدرسة نهاية بالدراما بكل أنواعها لترسيخ فكرة قدرية الفقر، وأن الحياة لن تكون إلا هكذا، وساعدتها المؤسسات الدينية وحتى الكثير من المؤسسات السياسية والاجتماعية التي حاولت حل مشكلة الفقر لا بمواجهة أسبابه، ولكن عن طريق مساعدات مباشرة للفقراء؛ وهي في الحقيقة أحد أدوات مساعدة النظام ذاته لإطالة عمره، وإبقاء المجتمع على المفاهيم التي يحاول النظام السياسي ترسيخها حول قدرية الفقر وأسبابه.
يؤكد فرانسيس مور في كتابة صناعة الجوع أن الجوع هو صناعة عالمية لحماية رؤوس الأموال الكبرى ويؤكد أن الاحتفاظ بالعادات التقليدية في الزراعة والمأكل هي أكثر إنتاجية وعدالة عكس كل ما يتم تداوله ويقول: “على أن قطع الأرض الصغيرة المزروعة بعناية أكبر إنتاجية للفدان من الضياع الضخمة وتستخدم أدوات مكلفة أقل”.
وأشار إلى عدة خرافات مثل عدم قدرة الأرض على توفير الغذاء وأن الزراعة غير قادرة على توفير فرص عمل وضرورة ميكنة الزراعة وتكبير الملكيات، كل هذه الخرافات التي ذكرها كتاب صناعة الجوع أو خرافة الندرة ربما كانت لتوفير أيدي عاملة رخيصة لصالح رؤوس الأموال الصناعية.
لقد أكد الكتاب أن الفقر هو صناعة لإنتاج الفقراء وضمان تدفق رأس المال كما هو الآن وأن النظم السياسية والاقتصادية علي مستوي العالم هي المسؤولة عن الفقر وليس الفقراء أنفسهم.
إلا أن الكثير منهم غير قادر على إدراك ذلك واستطاعت النظم أن ترسخ قناعة بأنها ليست مسؤولة عن الفقر وأن الأمور من الطبيعي أن تكون هكذا، وهذا ما يجب تغييره وبأي شكل في العقل الجمعي للجماهير حتى تتحول ثورات الفقراء من ثورات جياع إلى ثورات جذرية حقيقية؛ وهم لن يفعلوا ذلك إلا عندما يدركوا أن الأنظمة الفاسدة والعميلة هي سبب الفقر وسبب سوء توزيع الثروة.
إن الفقراء يعلمون أنهم فقراء بالتأكيد ولكن الأزمة أنهم لا يدركون من صنع هذا الفقر، فالأزمة أن الفقراء هم من يعيشون حالة الفقر والجوع؛ بينما الطبقة الوسطى ونخبها هي التي تدرك وتمتلك الوعي بهذا الفقر و أسبابه الذي ربما لم تجربه بشكل مباشر، لذا نجد في حالات التمرد من الفقراء والجوعى غير المؤدلجين لا يوجد صدام مع النظام السياسي في الغالب؛ ولكن يوجد صدام مع أصحاب الثروة من وجهة نظر ضيقة؛ ولهذا تقف النخب والطبقة الوسطي ضدها وتحتقرها لأنها تتعارض بشكل مباشر مع مصالحها؛ فالفقير لا يرى المشكلة في فشل السلطة ولكن يراها في سوء توزيع الثروة.
بينما يتحرك جزء من الطبقة الوسطى ويتمرد لأمور أخرى غير الفقر والجوع؛ ولكنها غير قادرة علي الفعل الثوري بشكل كبير فتلجأ إلى الفقراء والجوعى وتتوحد معهم كمحاولة لرفع حالة التمرد إلى الدرجة التي يصعب إيقافها من النظام السياسي، ويبدأ التمرد من الطبقة الوسطي ويتبعه الفقراء والجوعى إذا وثقوا في تحركاتهم.
صحيح أن في غالب الأحداث لم يستمر هذا التحالف وتبدأ الصراعات سريعا وهذا تقريبا ما حدث في كافة الثورات سواء كان ذلك ناجحا أم لا، وفي اعتقادي لا يمكن أن تنجح ثورة الطبقة الوسطى بمفردها ولكن يمكن أن تنجح ثورات الفقراء والجوعى إذا أدركت قياداتها ووعت بعمق ما ينبغي أن تعرفه.
ولهذا؛ فإن ما يحدث أحيانا من دعوى تبدو أنها من الفقراء والجوعى ثم تتبعها النخب السياسية غير المنتمية لها فعلا لتأييدها؛ فهي ضد المنطق والتاريخ وتبدو وكأنها صناعة برجوازية – من أي طرف كانت – براية الفقر والجوع لأهداف بعيدة تماما عن تلك الراية؛ بل في الغالب معادية لها.
وعلى هؤلاء الفقراء والجوعى الذين يملأون شوارع مصر من أقصاها إلى أقصاها أن يعرفوا عدوهم ويتحركوا تجاهه لكي يستعيدوا حقوقهم فورا وبلا تراجع وبدون عناوين بلا مضامين.