ليست قضية العسكر مقتصرة فقط على الدول الاستبدادية التي لا يجد فيها العسكر أي أزمة في ضرب شعوبهم بالطائرات والصواريخ والقناصة، وهذه المشاهد رأيناها بثا مباشرا في بقاع كثيرة خلال السنوات القليلة الماضية؛ ولكنها أزمة مرتبطة بأزمة الدولة القومية الحديثة التي تواجه انتقادات كثيرة بل وحالة من الإحساس بضرورة تجاوزها أو تغييرها.
وتزداد الأزمة سوءا في هياكل السلطة المستبدة التي تتخفى خلف بنية الدولة القومية؛ فهي تحمل العيوب المرتبطة بالدولة القومية ومعها الكوارث المرتبطة بالاستبداد، والجيوش هي المظهر الأكثر وضوحا وتمثيلا للدولة الحديثة، فهي المركز والمحدد لفكرة القومية والحدود وبدونها في الغالب لا يوجد معنى للدولة القومية.
والقوة هي تلك المنظومة، استطاعت الدول منزوعة الاستبداد الظاهر أن تجعل هذه القوة قوة ناعمة – ولو ظاهريا- فانسحبت القوة المسلحة إلي الخلف تحمي المنظومة؛ أما في الدول الاستبدادية فلا زالت القوة المسلحة هي الأساس.
يسقط حكم العسكر… كان النداء الأعلى منذ سنوات في شوارع مصر، فعلى مدى عقود طويلة استطاع الجيش السيطرة على الدولة وأصبحت حالة التوحد بين مؤسسات الدولة والمؤسسة العسكرية كخيط الصوف الملتف حول أسلاك شائكة، وتحول الجيش إلى عسكر لا بالمعنى اللغوي، فهما واحد؛ ولكن بالمعنى الذي يريده مطلقو نداء السقوط، وهو يحمل قدرا كبيرا من الإهانة حتى في نظر المؤسسة العسكرية.
فهم العسكر النداء بشكل واضح، فهم يعلمون مدى التشابك بين خيط الصوف والأسلاك الشائكة، ولا زال مرددو الهتاف أو على الأقل جزء كبير منهم لا يدركون ذلك أو لا يريدون إدراكه.
على أية حال ما يهمنا الآن هو العسكر في مصر؛ تلك الدولة التي ترتدي عباءة الدولة القومية وتخفي تحتها جسدا من الإقطاع والاستعباد؛ ولأن العسكر هو المعبر الأوحد عن الدولة فهو حامل تلك العباءة التي تشير إلى أنه حامي حمى الدولة القومية، وتحتها يظهر الإقطاع والاستعباد، فما يحكى هذه الأيام عما يحدث داخل معسكرات الجيش بمصر هو قشرة طفيفة من جرائم كبرى في حق الشعب المصري.
إن ما يفعله العسكر بالشعب المصري المجبر على ما يسمى التجنيد الإجباري وهو في حقيقته أشبه بالسخرة والاستعباد هو أحد أهم مظاهر قهر المجتمع في صورة العساكر تحت أحذية العسكر؛ فهو ترسيخ لحالة الانفصال والتعالي للضباط على الجميع وهو يؤسس ويؤكد لمفاهيم عدة لا يمكن للعسكر البقاء بدونها.
أولا في إطار الرداء القومي؛ يستخدم العسكر عدة عبارات منها تحيا مصر وخير أجناد الأرض ومصر أولا ومصر فوق الجميع، وهي عبارات الغرض منها ترسيخ فكرة الدولة القومية التي بنيت حولها، وغيابها يعني حتما غياب العسكر وربما فكرة الجيش النظامي بشكل كامل، لذا فهي أحد أهم دعائم وجوده ولا يقبل أبدا المساس بها وهي من الخطوط الحمراء غير القابلة للتجاوز، وقد نجحوا إلى حد كبير في زرع تلك العبارات داخل قطاعات واسعة من المجتمع المصري.
ثانيا في إطار المحتوى الإقطاعي الاستبدادي؛ يمارس العسكر الإقطاع مع كل أرض مصر فهم يعتبرونها ملكية خاصة بالقانون الذي يصدرونه من داخل الدولة المتوحدة معهم؛ ويمارسون الاستبداد على الشعب المصري في صورة العساكر التي تعمل بالسخرة في إقطاعيات العسكر.
هذه الثنائية لا ينفصل أحدهما عن الثاني فلا معني لتجنيد إجباري لخدمة “الوطن” دون شيفونية وطنية وهستيريا الشعارات، ولا يمكن أن يتواجد الإقطاع دون الاستعباد؛ ولا يستطيع الإقطاعيون ذوو الزي الكاكي ممارسة هذا القدر من الإذلال للشعب المصري دون مؤسسات مربوطة بالخيط الصوفي وسط الأسلاك الشائكة.
لقد بنى محمد علي الأول إمبراطوريته البيروقراطية لخدمة مشروعه القومي وكان عمودها الفقري الجيش؛ وذهب محمد علي الأول وبقي هذا النظام البيروقراطي الذي استمر في فلسفته بخدمة الجيش بشكل أساسي، وجاءت دولة العسكر لتكمل ما بدأ منذ مئتي عام، فالقضية ليست فقط في سلوكيات الضباط ولكن في تلك المنظومة التي تخرج هذا المنتج الحتمي للحفاظ على الرداء القومي والمحتوى الإقطاعي.
القضية أو المعضلة يتفرق دمها بين ثلاث؛ إما منظومة الدولة الحديثة برمتها وهذه قضية معقدة تحتاج لصناعة نظام بديل نملك بعض مفاهيمه؛ أو أن القضية محصورة في شكل الدولة المصرية تحديدا ومؤسساتها وطبيعة العلاقات بينها أو تكون فقط في المؤسسة التي تسمى القوات المسلحة، أو ربما بهم جميعا، ولكنها بالتأكيد ليست في المجلس العسكري فقط.