ربما لا يعلم الكثير من المصريين من هو إبراهيم الورداني؛ إبراهيم شاب مصري خريج إحدى جامعات انجلترا، كان يعمل صيدليا في مصر، وهو صاحب أول اغتيال سياسي في مصر في فبراير 1910 عندما أطلق رصاصاته صوب بطرس غالي رئيس الوزراء الذي كان صاحب مشروع مد امتياز قناة السويس لمدة أربعين عاما وله دور كارثي في اتفاقية السودان عام 1899، كما كان أحد أعضاء محكمة دنشواي الشهيرة.
كان بطرس غالي من وجهة نظر الورداني والكثير غيره خائنا لوطنه وأقرب إلى الانجليز المحتلين منه إلي المصريين، فأقدم إبراهيم على قتله.
دعونا نختلف أو نتفق حول جدوى ما فعله إبراهيم، إلا أن خشية الانجليز من كونه سيصبح بطلا شعبيا قادهم إلي تلك الحيلة الدائمة لكل مستعمر وفاسد ومخرب؛ ألا وهي استخدام النعرات الطائفية، فحاولوا الدفع بالجريمة من كونها سياسية إلي نمط آخر طائفي؛ وحاولوا الدفع بالبعض ليقولوا في الشوارع بأن إبراهيم قتل بطرس “المسيحي” ولكن الشوارع ضجت بالهتاف أن إبراهيم قتل بطرس “البريطاني” مما زاد أزمة الاحتلال.
أعدم الانجليز إبراهيم الذي وقف صلبا في محاكمته وأكد أنه غير نادم على قتل بطرس غالي الخائن ، وكان المحامي المدافع عنه هو ناصف أفندي جنيدي المسيحي، فأعدمه الانجليز انتقاما لرجلهم بطرس غالي بالرغم من عدم موافقة المفتي على إعدامه إلا أن القانون كما هو العادة أداة في يد المحتل والفاسد والمستبد بدلا من كونه طريق العدالة.
انتصر المجتمع المصري في هذا الوقت لحقه في المقاومة ولم تستطع قوي الاحتلال تفتيته بالرغم من محاولتها الضخمة؛ وأصبح إبراهيم رمزا للمقاومة وتغنى الشعب له يوم إعدامه بأغنية شهيرة تثير الشجن ربما لأنها تعلم أنها صُنِعت لبطل مصري أعدمه الخونة.
ماذا لو عاد إبراهيم الآن وعاد معه بطرس غالي؟ ماذا لو حدث ذلك الآن ونحن على بعد ما يزيد عن مئة عام من الحادثة الأولي؟ ماذا لو عاد معهم ناصف أفندي جنيدي وسار بجانب إبراهيم يتفقد القاهرة قبل أن ينفذ عمليته.
سيجد إبراهيم ومحاميه ناصف أفندي حالة من الجنون التي تجتاح مصر، و سيجد حكاما يحملون وجوها مصرية ولكنهم أسوأ من ألف بطرس غالي لا يستغلون فقط الشحن الطائفي ولكنهم يصنعونه، سيجد حكاما يقتلون الجميع ويدفعون مصر كلها لحريق كبير، سيجد بدلا من المفتي الذي رفض إعدامه مفتيا آخر؛ وسيجد بدلا من الرجال المسيحيين الذين يدافعون عنه أمام قضاء شامخ منذ عرفناه؛ سيجد رهبانا وقساوسة يشجعون القتل ولا يكترثون إلا بذاتهم ومنظومتهم الكنسية وليحترق الجميع ولتحترق مصر بمن فيها.
لا أعتقد أن إبراهيم عندما أطلق رصاصاته في صدر بطرس غالي ولا عندما دافع ناصف أفندي عنه كان يتخيل أن يأتي اليوم الذي تسمي فيه كنيسة باسم من قتله لخيانته ولا كان يتخيل أن يفكر أحد في تفجير كنيسة بها أطفال ونساء.
سيكون يوما صادما على إبراهيم ربما لن يستطيع إدراك ماذا حدث في مئة عام حتى تصل مصر لذلك.
من يحاول إجابته لن يعجز عن سرد كارثة الفساد والإفقار والتجهيل الذي يغزو مصر تحت جنازير الدبابات؛ ولا سيجد أزمة في ذكر المذابح المباشرة وغير المباشرة المصنوعة بالفقر والمرض التي لم تفرق بين مسلم ومسيحي والتي تطيح بالجميع من أجل حفنة من آلاف بطرس غالي الذين يحكمون مصر، سيستمع إبراهيم الورداني ويحاول إعادة صياغة أفكاره ولكنه ربما لن ينجح في فهم هذا التحول الكارثي في مصر.
إن المجتمع المصري كله في أزمة كبرى ترتدي عباءات مصطنعة من الطائفية؛ هناك مشاكل بالتأكيد ولكنها مشاكل في بنية السلطة التي تصدرها تلك السلطة العفنة للمجتمع لتبقي معزولة في برجها العاجي؛ محطمة كل المجتمع من أجل بقائها، وليس هناك أمتع من صناعة معارك وهمية لشد الأنظار بعيدا عن المعركة الأساسية وهي معركة كل الشعب مع كل الفاسدين بكل أشكالهم.
نعود إلى إبراهيم الذي تغني باسمه المصريون عندما كانت بوصلتهم واضحة في تحديد العدو وانحرفت الآن بفعل الوعي الزائف الذي تصنعه كافة مؤسسات الدولة العفنة. هل سيتغني المصريون باسمه لو عاد الآن وأعاد ما فعله منذ مئة عام؟
لا أدري ولكن كل المؤشرات الحالية تشير إلي أن الكثير من مكونات العقل الجمعي المصري بفعل تدمير الوعي المستمر ربما تدفعهم إلى لعنه وطلب إعدامه؛ سنجد أصوات المؤسسات الدينية تشعل صراعا متخيلا وسنجد العملاء الملتحفين بالعمائم والعباءات السوداء يدفعون الجميع إلي المحرقة، وسيستطيعون بمنتهى البساطة أن يحولوا دفة المعركة من معركة بين شعب وسلطة فاسدة مجرمة إلى حالة من صراع شعبي مرتدي عباءة الطائفية.
سيعود إبراهيم إلي ماضيه ويحمد الله على أنه استشهد قبل أن يعيش تلك الكارثة، وسيعود معه ناصف أفندي ومعه دواوين في رثاء مصر التي يتلاعب بها الخونة، وسيبقي الآلاف من بطرس غالي لينتقموا من المصريين الذين تغنوا يوما باسم من قتلوا مثلهم الأعلى، وسيحكي إبراهيم لأقرانه كيف أن دماء المصريين كلهم فاضت في شوارع مصر بفعل قاتل واحد ولا زال مصريو المستقبل يتنازعون أمرهم بينهم تاركين الآلاف من بطرس غالي يضحكون في برجهم العالي وهم يستمتعون بإحراق ما تبقي من مصر.