يصعب في تلك الأجواء المشتعلة في مصر تجاوز الحديث عن الأرض. ربما يذكرنا ذلك برائعة عبد الرحمن الشرقاوي عن الأرض التي ذهبت ولم تعد؛ الأرض التي ارتوت بالدماء ولكن الدماء ليست هي التي تثبت في هذه الأيام وتلك أيضا لمن تكون الأرض.
استطاعت حادثة الجزيرتين أن تعيد قدرا من الإحساس بالخطر المدقع التي تعيش فيه مصر، والعجيب أن من شعر بهذا الخطر ليس هؤلاء الذين يتَّهمون غيرهم بأنهم لا يدركون معنى الوطن، فالأممية الإسلامية وقريبا منها أممية اليسار دائما مُتَّهمتان بأنهما ضد الوطن ولا يهتمان بفكرة الحدود، وجدنا هؤلاء من يحترقون من أجل الجزيرتين؛ ووجدنا الآخرين المُتيَّمين بالصراخ بفوبيا الوطن يبيعون الأرض بلا ثمن كبائعات العرض الهواة.
أظهرت تلك الحادثة أن البعض ممن يمتلكون فكرا متجاوزا للحدود أرقى فهما وأكثر نضجا من هؤلاء التجار، نعم إنهم تجار جيدون بمعايير الليبراليين الجدد.
أعقب البيع المباشر حالة من تمهيد بيع باقي الأرض للوصول إلى قلب القاهرة. فالقاهرة تلك العاصمة “القاهرة” لابد من إخضاعها، وفي الطريق إلى ذلك كان لابد أولا من تدمير الإنسان المصري، أو بمعنى أكثر اتساعا عندما تريد أن تملك الأرض فأمامك طريقين لم يتغيرا منذ طغيان الحقبة الاستعمارية ألا وهما تغييب العقل للمجتمع وصناعة نخبة من” الحكماء” حتى تقلب المعايير، وتوزيع تلك النخبة بين قيادة الدولة وقيادة المجتمع؛ والثاني قتل من تبقى من”الموتورين”.
لم يغلق الملف بعد، ولازالت محاولات الإخضاع مستمرة، فالأمور تتعقد والحاجة إلى الأسواق التقليدية فقط لمتعد كافية لشراهة النيو ليبرال، والحاجة إلى الموارد تزداد كي تستمر الدول “القائدة” في الحفاظ علي مستوى الرفاهة العالي لشعوبها، وتحافظ على حالة تكدس الثروة الجنوني، فهي تحتاج إلى معدلات سرقة كبيرة لم تعد النماذج القديمة في الاستغلال تستطيع تحقيقها، الآن وقت العودة إلى النماذج الكلاسيكية الإقطاعية في صورة جديدة “نيو لوك” برؤية جديدة “نيو ليبرل” والإقطاعيات تحتاج حتما للأقنان.
علي أية حال بدأت المرحلة الثانية بحرق القاهرة، ومازال أصحاب العقول المسطحة يهللون لمن يدفع بهم كي يكونوا أقنانا في الإقطاعيات الجديدة، ومازال الحكماء ينتظرون أن تنتصر العدالة بذراع مجهولة. يذكرنا الحكماء الجدد بالحكماء القدامى في ثورة 1919 عندما أصدروا بيانا يدعون فيه الشعب إلى الهدوء والسكينة، فالحكماء لا يتغيرون كثيرا عبر عصور مصر.
لا زال حرق القاهرة القديمة مستمرا ولن يتوقف قبل أن تكون تلك الأرض ممهدة لاستقبال الملاك الجدد؛ ولن يفرق هؤلاء الملاك بين من كان مدرك لحجم كارثة 3 تموز/ يوليو، وبين من هلل لها وبين من رآها حالة مؤقتة لتغيير موازين القوى، سيتحول هؤلاء جميعا إلى أدوات جاهزة لصناعة الثروة.
منذ مئات السنين أبادت الحضارة الغربية عشرات الملايين من البشر لتحقيق تلك الطفرة الهائلة، ولم تَعُد تلك الحضارة بحاجة إلى هذا القدر من الإبادة ولكنهم بحاجة إلى الأرض والثروة والأقنان.
مصر ذات المئة مليون والتاريخ والحضارة ستصبح نموذجا لتلك الصورة الجديدة إذا فقدنا ملح أرض مصر المتمثل في هؤلاء الذين لا يعلمهم أحد ويحبون تلك الأرض، ويدركون أن حريتهم بل وبقاءهم وبقاء فقراء المئة مليون البائسة مرتبط بمقاومتهم لكل هذه القوى المجنونة التي استطاعت وضع عميل على رأس السلطة في مصر لتسهيل السيناريو المأساوي. ملح الأرض الذين يملأون السجون ويملأون حارات مصر ونجوعها وقراها وشوارعها منثورون في كل شارع ينتظرون لحظة الخلاص ليذوبوا ويحيوا أرض مصر بل والمنطقة بأسرها.
هؤلاء الذين لا يعلمهم أحد سيذوبون في الأرض لتبقى روحها موجودة ودائمة؛ سيذوبون كما يذوب الملح في الطعام فيعطي له ذاته التي يبحث عنها، هؤلاء هم من سيحمون مصر من الكابوس القادم، وعلى الحكماء التوقف مرة واحدة عن ممارسة الحكمة حتى ينجو ملح أرض مصر بهذه الأرض.
سلام إلى ملح أرض مصر.