لا أعتقد أن أحدا منا لا يري الآن حالة الانهيار الشامل التي تجتاح مصر؛ ليس فقط من الناحية الاقتصادية ولكن من الناحية الأخلاقية وربما العقلية، فقد أصبحنا نري الخيانة العلنية في المحافل الدولية في عرض من الكوميديا السوداء كما حدث الأسبوع الماضي، والعجيب أنه حتى الصمت لم يعد ممكنا؛ وهو السبيل الوحيد لحفظ ماء الوجه لكل مجرم لا يجد من يحاسبه بهذا النظام، وجدنا بدلا من صمت الخجل تبريرا فاضحا في إعلام النظام على الخيانة بل وتغييرا في معلومات قطعية رآها العالم كله – بما فيهم المصريون قطعا – على الهواء مباشرة.
وسط تلك الحالة المأسوية والتي تعلن عن عمالة مباشرة وتصميم كامل من عملاء رسميين علي تدمير شعب مصر وإلحاقها كولاية تابعة للصهاينة؛ ظهرت عدة مشاهد للباكين في مصر؛ لم يبك أحد علي فلسطين التي ساهمنا في ضياعها، فالميكروفونات تغرد بأغنية أخري علي أنغام الخيانة. ومصر المخطوفة لا يسمع أحد صوتها.
ربما كان أشهر مشاهد البكاء هو ذلك البكاء المسرحي المصطنع من القائد المعلن للثورة المضادة علي الهواء مباشرة، كان يبكي –كما يحاول الادعاء – علي شعب مصر وعلي حاله الذي يدعي أنه يقاتل هو ومن معه لإنقاذه مما هو فيه من فقر وجوع، بالتأكيد هؤلاء الفقراء ليسوا من المصطفين خلفه؛ فهم قطعا لا يدركون معني الجوع ولا الحاجة؛ ولا يدركون ماذا يعني أن تجد نفسك غير قادر علي اللحاق بأي شيء ولا تمتلك غير العدو بكل ما تمتلك من قوة خلف قطار التضخم الفائق السرعة والذي يقضي علي أحلامك البسيطة حتي في وجبة ساخنة لأولادك.
بكي قائد الثورة المضادة وأنا أكاد أجزم أنه يكتم ضحكاته؛ فلا زالت هناك خطوات عليه إنجازها لتدمير ما تبقي من مصر؛ يضحك ممن حوله من المصفقين المنافقين الذين يشاركونه في خيانته سواء بوعي أو بغير وعي؛ فهم أدواته لاستكمال دائرة الخراب؛ يضحك علي هؤلاء المرتدين للزي الكاكي والأسود المزهوين بسلاحهم وعتادهم والذي لن يغني عنهم شيئا عندما يشتعل الحريق في مصر، يضحك من هؤلاء الذين ينتظرون منه خيرا قريبا أو بعيدا ويضحك منا أيضا وهو يري جزءا منا يهرول نحو الثورة المضادة حتي ينقذ مصر، لا أعرف كيف يستقيم ذلك ولكنه ما يدعونه. يضحك وهو يري أن مشروعه قد اقترب من النهاية ونساهم فيه جميعا إما بالصمت أو العجز.
بكاء آخر في أحد شوارع مصر من رجل يسير في الشارع ويصيح بصوت عال بجمل يشير فيها أنه لا يستطيع إطعام أولاده؛ هو لا يخاطب أحدا ليعطي له مالا، فمال اليوم سينتهي وسيأتي غدا بلا مال أيضا. هذا الرجل يعبر عن معاناة الملايين الذين لا يمتلكون ميكروفونات ولا مدونات ولا صفحات التواصل الاجتماعي، فخرج في الشوارع ليعلن أنه موجود ولكنه اقترب من الفناء؛ فكما يقال من يمتلك ميكروفونا واحدا يغطي صوته علي الآلاف.
هذا الرجل يخاطب واقعه البائس، يخاطب عجزه وسط سباقات لا يحتملها ولا يملك أدواتها، سباق لا يأبه بأحد إلا من يستطيع العدو فيه بأي شكل كان، أما هؤلاء العاجزين فلا حاجة لنا بهم والموت جوعا أولي بهم، ومن يستطيعون العدو يحطمون كل شيء تحت أقدامهم رافعين شعارات الوطن وهم أول من يدمروه؛ ولافتات العدالة وهم أصل الظلم. هؤلاء من يذبحون الفقراء وسيستمرون في ذبحهم؛ حيث يكثر دماءهم من ثرواتهم؛ فلم يعد العمل والكفاح وعرق الفقراء كافيا لإطفاء شراهة الرغبة في المال ولم يعد إلا الدم لتروي به ثروات هؤلاء المصفقون المحيطون برأس الأفعى.
إن الفقراء الذين يملأون مصر ومعهم من انهارت أحلامهم في حياة علي حافة الفقر وغيرهم الكثير قد أصبحوا في دائرة بؤساء مصر ولم يسلم منها إلا المصفقين المنافقين؛ وللأسف فشل الكثير في الدخول إلي تلك الدائرة فقد امتلأت عن آخرها حتي الثمالة ولم يبق فيها موضع لقدم؛ ومن حطم تمثال قائد الثورة المضادة واحد من هؤلاء الطامحين للدخول في الدائرة التي أغلقت علي أصحابها.
إن ما يحدث في مصر الآن هو عرض مفتوح علي الهواء مباشرة في كيفية قدرة رأس المال والسلطة المتحالفتين بحماية السلاح علي إذلال شعب كامل فقد القوي المجتمعية القادرة علي التصدي للعدوان عليه؛ فلم يعد حتي يستطيع رفع صوته بالاعتراض ويعلن من في رأس السلطة خيانته ولا صوت يسمع فوق صوته؛ إنه بث مباشر لصورة جديدة من الاحتلال بدون سلاح واستخدام جزء من “الشعب” لإذلال جزء آخر بصورة أبشع من الاستعمار المباشر؛ بث مباشر لمن لا يزال مؤمن بفكرة الدولة المحايدة وبعض من الإيمان بالدولة الحديثة، حالة واقعية تثبت أن هناك رابطا ما غير ما نحن عليه يستحق عناء محاولة البحث عنه.
تحوَّلت مصر علي يد تلك الحفنة من المجرمين إلي ساحة قتل من جانب واحد تطلق فيها أسلحة قديمة بجانب أسلحة جديدة لسحق الجميع وليبقي فقط هؤلاء من يريدون الوقوف علي أطلال مصر؛ التي ننطلق إليها بكل ما نمتلك من عجز وقهر وبكل ما يمتلك الخونة من إجرام، ولن يشفع بكاؤنا وسط الأطلال؛ وفي تلك اللحظة سنقارن بين أطلال حلب التي نتجت عن معارك ومقاومة وبين أطلال مصر التي جاءت من غياب شبه كامل للمقاومة، وسيظهر عندها سؤال سيفرض نفسه علي الجميع؛ أي أطلال منها يمكننا أن نعيد بناءها؟ أطلال حلب وبغداد وأخواتها أم أطلال القاهرة؟ أعتقد أن علينا إعادة النظر في الجملة الشهيرة أننا أفضل من سوريا والعراق.