التاريخ يعيد نفسه في بلادنا؛ ودائما ما تكون النسخة الثانية أو الثالثة؛ تستطيع العد إلى ما تشاء؛ من نوع الكوميديا السوداء الممزوجة بصرخات حب الوطن الذي نريد من أي أحد أن يخبرنا عنه.
فمنذ مئات السنين ونحن نعيد دوائر التاريخ بلا رحمة بأنفسنا ولا بأجيالنا القادمة ولا بماضينا المجيد قبل الدخول في متاهة الدوائر المتعاقبة، وعند نهاية كل دائرة نهبط إلى الأسفل حتى بلغنا قاع الأمم ولا زال ساكنو القصور من المحيط إلى الخليج – وربما أبعد من ذلك- يعيدون الكرة وكأنهم لم يكتفوا بانبطاحنا أرضا ويريدون لنا الدخول تحتها.
منذ السقوط الدرامي للأندلس ونحن نقوم بنفس الأدوار وتمارس قصور الحكم في بلادنا الفجور في الطرقات – أي طريق كان – تحت عباءة العدو، فالقصور في بلادنا ليست مجرد مكان فاحش الثراء ولكنها أيضا مراكز الخيانات الكبرى مرورا بالثورة العربية المزعومة بدايات القرن الماضي.
استطاعت القصور البائسة أن تنجح فيما فشلت فيه جيوش كبرى؛ ولا تعيش قصور الخيانة إلا في كنف جيوش العار وتشاركوا معا في تحطيمنا، بل وأصبحت تلك القصور لا تجد حرجا في تدمير أي رافض لقضاء الليل تحت عباءة العدو في الطرقات.
طوال مئة عام أو يزيد يحاول البعض جاهدين دفع تلك الأفكار عن أذهاننا وكأنهم – في أحسن الأحوال – يرفضون تصديق هذا الواقع المأسوي، ومع كل ضربة سيف جديد فوق رؤوسنا نجدهم يزيلون آثار الدماء ويستمرون في ترسيخ الرفض وصناعة وعي زائف للجماهير.
انظر عبر آلاف الأميال طولا وعرضا ستجد أموالا طائلة وطاقة بشرية هائلة وثروات لا حصر لها؛ ولكنها توضع تحت أرجل الأعداء على أنغام رقصات السيوف الصدئة في كرنفالات البيع الرخيص لمئات الملايين من البشر؛ حتى تبقى القصور عامرة بالخيانة وتبقى بلادنا في دوائر الهبوط التي لا تنتهي.
إن تلك القصور لا تعرف غير عدائنا وعداء كل من له أي ارتباط بأي شكل كان بقضايانا الكثيرة التي أنتجتها خيانات تلك القصور؛ فتلك القصور كانت مركز الثورة المضادة التي تحاول قتل حلم الثورة والتغيير مجتمعاتنا، وهي التي ساندت بأموال هائلة الانقلاب الفاشل في تركيا ولا زالت تلك القصور مركزا لإدارة الصراع ضد تحرر الشعوب وكأنهم أعدائنا أو أضل سبيلا.
ولا زالت تبعثر ثرواتنا بغير رقيب ولا حسيب على كل عدو لنا، ولا زالت تستمتع برؤية الآلاف من رجالنا ونسائنا وأطفالنا تستشهد تحت قصف طائراتهم، فمن بغداد مرورا بالشام وفي الجنوب اليمن وليبيا وغزة وغيرها الكثير من مدننا تعرف رائحة الدانات المنبعثة من تلك القصور.
إن الخطر الصاعد من داخل هذه القصور أصبح أكثر فتكا من أخطار الجوار الجغرافي، وأصبح وجودها أكبر معوق لتحرير الشعوب المنتهكة، بل وأصبح وجودها واستمرارها خطرا داهما على وجودنا ذاته وتاريخنا وعقولنا، فالهجمة الشرسة الحالية لم تترك شيئا متبقيا ذو قيمة إلا وحاربته.
أصبحت الشعوب كلها على المحك؛ فكل التاريخ والمستقبل مرهون بقدرتها على مقاومة الخيانات المتصاعدة والذي زاد عمره عن الأعوام المئة وأصبح علاجه واجبا قبل فوات الأوان، ولن ينجينا من الكارثة إلا الشعوب ذاتها قبل أن تجد نفسها في مصير أسوأ من الأندلس وربما أسوأ من السكان الأصليين في قارات العالم الجديد.